الباب الأول [في تعظيم شأن القرآن وفصل بيانه بالنّظم العجيب والتّأليف الرّصيف]
اعلم أنّ الله تعالى عظّم شأن القرآن، وفصل بيانه بالنّظم العجيب والتّأليف الرّصيف على سائر الكلام، وإن وافقه في مبانيه، ومعانيه ثم أودعه من صنوف الحكم، وفنون الآداب والعذر، وجوامع الأحكام والسير، وطرائف الأمثال والعبر، ما لا يقف على كنهه ذوو القرائح الصّافية، ولا في بعد فوائده أو لو المعارف الوافية، وإن تلاحقت آلاتهم، وتوافقت أسباب التّفهم والافهام فيهم، فترى المشتغل به المتأمّل له، وقد صرف فكره إليه، وقصر ذكره عليه، قد يجد نفسه أحيانا فيه بصورة من لم يكن سمعه، أو كان بعد السّماع نسيه استغرابا لمراسمه، واستجلاء لمعالمه، وذلك أنه تعالى لما أنزله ليفتتح بتنزيله التّحدي به إلى الأبد، ويختتم بترتيله وآدابه البذارة إلى انقضاء السّند، على ألسن الرّسل، جعله من التّنبيهات الجليّة والخفيّة، والدّلالات الظّاهرة والباطنة ما قد استوى في إدراك الكثير منها العالم بالمقلد، والمتدبّر، والمهمل.
وإن كان في أثنائه أغلاق لا تنفتح الأشياء بعد شيء بأفهام ثاقبة، وفي أزمان متباينة، ليتّصل أمد الإعجاز به إلى الأجل المضروب لسقوط التّكليف، ولتجدّد في كل أوان بعوائده وفوائده ما يهيج له بواعث الأفكار، ونتائج الاعتبار، فيتبيّن ثناؤه الرّاسخ المتثبّت، والنّاظر المتدبّر عن قصور الزّائغ المتطرّف وتقصير الملول الطّرف. لذلك اختلفت الفرق، واستحدثت المذاهب والطّرق، فكلّ يطلب برهانه على صحة ما يراه منه، وإن ضلّ عن سواء السّبيل من ضلّ لسوء نظره وفساد تأنّيه، وعدو له عن منهاج الصّحابة والتّابعين وصالحي الأسلاف، فلما كان أمر القرآن الحكيم على ما وصفت، وكان الله تعالى فيما شرع من دينه وحدّ عليه من عبادته، ودعا إليه من تبيّن صنعه وتنبّه ما أقامه من أدلّته. قال: خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ
[سورة العنكبوت، الآية: ٤٤] مبيّنا أنه اخترعها بما يشتمل عليه حقا لا باطلا وحتمالا عبثا لتوفّر على طوائف خلقه منافعها، ومثبتها من يصدق بالرّسل، ويميز جوامع الكلم على بعد غورها في قضايا التّحصيل وتراجع الأفهام، والأوهام عن تقصي مأخذها بأوائل التّكليف.
1 / 19