ينسيهم طول الأيام دفائن أحقادهم، يراعون الذّمم، ويوفون بالمواثيق، ويوجبون الجوار باعلاق الدّلو بالدلو وشد الطّنب بالطّنب حتى قال زهير:
وجار سار معتمدا علينا ... أجابته المخافة والرّجاء
فجاور مكرما حتّى إذا ما ... دعاه الصّيف وانصرم الشّتاء
ضممنا ما له فغدا علينا ... جميعا نقصه وله النّماء
ثم لم يرضوا لأنفسهم بالاسم الواحد، والكنية الواحدة، والنّعت الشّريف والذّكر الرّفيع والمنصب المفخم، والفخر المقدّم حتى تنقلوا في أسامي وكنى كما اكتنى حمزة بن عبد المطّلب بأبي يعلى- وأبي عمارة، وعبد العزى بن عبد المطلب بأبي لهب- وأبي عتبة، وصخر بن حرب بأبي سفيان- وأبي حنظلة، وحسان بن ثابت بأبي الوليد وأبي الحسام، وعثمان بن عفان بأبي عبد الله وأبي عمرو، أو أبي ليلى وعبد الله بن الزّبير بأبي بكر، وأبي خبيب وأبي عبد الرّحمن.
والذين أسماؤهم كنى كثير في العرب يسمّي بعضهم بعضا بسمات تفيد التّفخيم والتّعظيم كقولهم: ملاعب الأسنة، وسم الفرسان وزيد الخيل، ومحكم الأقران وأشباه ذلك. فهذه الخصال تختصّ بهم إلى كثير ممّا إن شغلنا الكلام به خرجنا عن الغرض المنصوب ولله تعالى في خلقه أن يفعل ما شاء، ويصطفي بفضله من شاء، وهو الحكيم العليم، ولولا اهتزازي لتقديم ما يتعلق به همّة برّ أشاد النّفيس، وسرعة إجابتي إذا أهاب لما رهبته، وليحصل لي به الفأل الحسن والذّكر المؤبّد، والالتذاذ بالدّخول في جملة أهل الفضل والاستنان بسننهم في إذاعة ما تكسيهم الأيام ويفيدهم الاجتهاد لبقيت في حجر الفن بما أورده لما أرى في أهل الزّمان من اطراح العلم، واحتقار أهل الفضل، ولا أزيد على هذا مخافة الخروج إلى ما يعد سرفا، بل أنشد قول الأول شعرا:
إذا مجلس الأنصار حفّ من أهله ... وحلّت مغانيه غفار وأسلم
فما النّاس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدّهر بالدّهر الذي كنت أعلم
واعلم أنّ قرب الشيء في الوهم ليس بموجب حصوله، ولا بعده فيه يقتضي بطوله، وهذا الكتاب ليس اختياري لعلمه لغلبته، ولا اشتغالي به عن شبهه لكنّي حصنته تحصين الحزم، وصنته صون العرض المكرم، فهو مذخورة المتلهف، وعقد المعتال المحتكم، ثمره عند الينع لا يخلف، وماؤه على الميح لا يكدر.
وقد قيل لحاضنك عليك حق اللّبن، ولتربتك حبّ الوطن، ولنسلك حرمة السّكن، ولطربك خلع الرّسن، كما أنّ لما تخلد به ذكرك من نثر أو نظم عليك شرف التّحلية، وحسن
1 / 12