ووقع في نفس قوية أنه لن يستطيع البقاء في الأرض بعد أن صارت إلى ميسور، كان كلما رآه تذكر أخاه سلومة السجين الذي كان في يوم من الأيام أحد أعوانه وأشياعه المقربين، ومن أجله تجرأ على عداوة الرجال، وفي سبيل الولاء له اعتدى على كثير من الأبرياء، ثم ما لبث أن ذاق طعم الدماء كما يذوق جرو الأسد دماء أول ضحاياه، فضرى وقسا حتى تحجر قلبه وأصبح فاتكا عابثا لا يثنيه عن شره شيء من رحمة أو رهبة، بل لقد بلغ به الأمر أن ارتد على صاحبه الذي راضه على الفتك فكشر له عن أنيابه مخاشنا، ولكن ذلك السيد لم يمهله، بل كان مثل الفهد الخفيف الحركة إذا لقي ذئبا ضاريا، فبادر إليه قبل أن ينشب فيه أنيابه، فألقى به إلى السجن ليلقى جزاءه على الآثام التي كان هو يبعثه إليها.
ولكن قوية مع ذلك لم يستطع أن يغادر الأرض التي بذر فيها برسيمه وقمحه، وأعد فيها جانبا لقطنه، فآثر أن يجامل ويصانع ويداري حتى يجني ما زرع، ثم يفكر بعد ذلك فيما يكون؛ ولهذا أقام في أرض يكاد يمقت النظر إليها.
كان يخرج إلى الحقل كل يوم مع زوجته يعملان معا، ولكنه كان يود لو وثبت الشهور حتى يقبل الخريف مرة أخرى لكي يقطع ما بينه وبين العزبة، وتنكر للقرية والجرن والبركة والنخل، فكاد يخيل إليه أن كل ذلك قد صار عنه أجنبيا منذ صار في حوزة إبراهيم ميسور، ثم قطع نفسه من بناء العزبة بعد أن اتخذ له فيها دارا ليقيم بها مع زوجته العزيزة، وآثر أن يعود إلى خيمته يعيش فيها كما كان يعيش من قبل، بل لقد بالغ في القطع، فبعد بخيمته إلى الجانب الأقصى من الكوم حتى لا يقع بصره على الدار ذات الأسوار العالية، وكان رضاء مبروكة أم قوية أعظم من رضاء ولدها؛ لأنها كانت تنزوي في كثير من الأوقات في خيمتها وتندب ولدها السجين منذ رأت وجه ميسور يطلع عليها في العزبة.
ولم يعبأ ميسور بشيء مما دار في نفس قوية ولا في نفس أمه المسكينة، فإنه أحل أتباعه في العزبة، وجعل دار قوية مسكنا للخولي الجديد، وضربت خيمة أخرى في سفح الكوم مما يلي العزبة وحل فيها خفير آخر بدوي من أتباعه، ومضى السيد في إصلاح الأرض في نشاط وخبرة كأنه يسخر من طريقة الأفندي في الفلاحة والإصلاح.
وكان ميسور معروفا في أطراف ذلك الريف بأنه خبير في الزراعة إذا وضع يده في موات أحالها إلى جنات وبساتين، فشرع يمهد الطرق ويزيل الأكوام ويزرع الشجر على جوانب الجسور، فكانت العزبة تدوي بعجيج العمل كل يوم من الصباح إلى المساء، وكان العمال لا يستريحون في ظهيرة، ويبكرون في الغدو ولا يبادرون إلى الرواح في المساء كأنهم يحسون رهبة سوط من ورائهم.
وكانت البركة الفسيحة تفصل بين الحقول والقرية، وهي وإن أكسبت المنظر جمالا كانت تشغل فدادين عدة ولا تؤتي ثمرة، فبعث ميسور إليها عماله فأهالوا عليها من تراب الكوم في دءوب كأنهم النمل يخلي عشه في مطالع الربيع.
ثم دفئ الهواء ودبت الصفرة في أعواد القمح الخضراء، واشتعلت خضرة البرسيم بنوار أبيض ناصع أو أصفر بهيج، فصارت الحقول من مزيج الألوان كأنها لوحة فنان، وكانت تعويضة تذهب إلى حقلها في الآصال ترعى غنماتها وتقطع من سنابل القمح لتصنع منه فريكا، على حين كان قوية في شغل من قطنه يعزقه ويرويه ويصابحه ويماسيه كأنه أم تتعهد رضيعا، فإذا أصبح بكر إليه يقلب أوراقه؛ ليرى هل تركت عليه فراشة الدود «لطعا» من بيضها المخيف ، وإذا أمسى ذهب مرة أخرى يقلب ورقه؛ ليرى هل خرج وسواسه فآذن أن يزدهر، أو يميل على خطوط البقل والبطيخ ليرى هل أخرج شطأه.
ومر ميسور في أصيل يوم بحقل قوية وكانت تعويضة هناك، فمال عن طريقه يسأل عمن هناك، واستقبلته تعويضة في شيء من الرهبة التي كانت تسبق اسمه إلى القلوب، فلم تبسم ولم تتجهم، بل قامت نحوه عندما ناداها.
وقال لها: ما اسمك يا بنت؟
فقالت في صوت خافت: تعويضة.
Halaman tidak diketahui