هذا ما بدا له في وقفته، فما انصرف عن جانب النهر حتى كان قد وقرت في قلبه عقيدة، وأحس كأن ثقل الحيرة قد ذهب عنه.
فإن أحوال هذه الحياة لا قيمة لها ولا عبرة بها، فلا الفقر ولا الغنى ولا السلطان ولا الضعف ولا شيء من ذلك كله يستحق من الناس لفتة، وإذا كان للناس غاية في هذا الوجود فإنهم جميعا فيها سواء، إنه الواجب الذي خلق الله له الكائنات جميعا عندما أمرهم بالوجود، أليست الشجرة تنبت عودا مثل هدبة الثوب ثم تنمو حتى تكون هيكلا ضخما ، ثم تؤتي ثمرتها حينا وتمضي في سبيلها بعد أن تتم وجودها؟ أليس كل صنف من الحيوان ينشأ علقة ثم مضغة ثم يصير إلى التمام حتى تخبو فورته فيطويه الثرى؟
أليس الوجود في تمامه هو غاية الأحياء، وما ينبغي لصنف منها أن تكون له غاية سوى هذا؟
وقد كان لهذه الوقفات أثرها البالغ في حياة فؤاد، فقد بدلته حتى أحس أصحابه ما اعتراه من تغير، كان من قبل يأنس إلى مجالسهم، ويقضي معهم قطعا من المساء في سمر صاخب مرح لم يكن يدرك فيه سخفا، فصار يحس في مجالسهم ضيقا ولا يكاد يجتمع بهم إلا في ساعات المائدة ثم يقضي سائر وقته وحيدا، وداخله من هذه العزلة ضيق جديد وأحس في نفسه فراغا ووحشة، فكان يحس أحيانا حنينا مبهما وأحيانا يحزن حزنا خاويا لا يدري له باعثا، ويتمنى لو عاد حينا إلى العزبة لعله يجد فيها لنفسه مراحا، ولكنه كان لا يلبث أن ينفر من فكرته، فماذا كان في العزبة مما يستراح إليه؟ ألم يقل له قوية إنه سوف يعقد زواجه على تعويضة؟
وبعث ذلك الخاطر فيه ضيقا آخر وحرجا، فما الذي يتعلق به في خياله؟ أكان يريد تعويضة أن تكون زوجته؟ يا للسفاهة!
وجاءت عطلة العيد فهم بأن يعود إلى العزبة ليقضي بها أياما، ولكن خطابا أتى إليه من قوية يدعوه إلى شهود ليلة عقد زواجه فمزق الخطاب حانقا وقضى ليله مسهدا كئيبا يلوم نفسه كيف نزلت به حتى يتجرأ مثل هذا الفتى على دعوته في هذه البساطة إلى عرسه؟! وارتدت إليه صورة تعويضة الأعرابية في جمالها الوحشي كأنها تكذبه فيما يدعيه، ولكنه قضى عطلة العيد بالقاهرة.
ومر به العام مضطرب الفكر حتى كاد ينسى قراءته، وكان كثيرا ما يخرج إلى الحقول والحدائق المجاورة لمعهده ليقضي فيها ساعاته مغفلا كل دروسه.
وأقبل صيف القاهرة بحره عنيفا كعادته كل عام، فكان يكاد يصهر الهواء، فلا يجد فؤاد لدروسه فرصة إلا ساعات من الليل إذا ما هدأ الحر وهبت من النسيم هبات كان يتلقاها كما يتلقى الظمآن جرعات من الماء.
ولما فرغ من امتحانه بعث إلى أبيه معتذرا من تأخير السفر إليه، إذ كان يريد قضاء أيام في الإسكندرية، وعزم على أن يهرب إلى ذلك الشاطئ، يحاول أن ينسى عنده ما مر به من سخافات.
وكان اليوم الذي بلغ فيه الإسكندرية من الأيام الهادئة الهواء التي يتجلى فيها البحر كأنه مرآة، وتنفس من أنفاس البحر فملأ صدره منه وانفرجت قبضته لمنظر الأفق الأزرق الفسيح، وسار على الشاطئ الذهبي فوق رمال سيدي بشر، فكانت أشعة الأصيل تنساب مائلة كأنها ذهب من فوق ذهب، وكان من حوله عالم مرح يموج ويسعى كما يسعى النمل حول عشه، يلتقي حينا ويفترق حينا ويتدافع ويتجاذب في رفق كأن الحياة قد خلت من همومها.
Halaman tidak diketahui