وأصبح الشيخ فأمر ابنه بأن يختلف
3
إلى بيت المفتش في كل يوم، وفرح الصبي بهذا فرحا شديدا، فأعاده على أترابه في الكتاب وتحدث به الصبيان، ولا تسل عن مقدار ما كان يترك هذا الحديث في نفس سيدنا من الحزن؛ فقد نهر
4
الصبي وأمره ألا يذكر اسم المفتش مرة في الكتاب.
وذهب الصبي إلى بيت المفتش، واتصل ذهابه إلى هذا البيت، وأقرأه المفتش «تحفة الأطفال»، وشرح له أصول التجويد؛ علمه المد والغن والإخفاء والإدغام وما يتصل بهذا كله. وكان الصبي معجبا بهذا العلم، وكان يتحدث به إلى أترابه في الكتاب، وكان يبين لهم أن سيدنا لا يحسن المد ولا يتقن الغن، ولا يعرف الفرق بين المد الكلمي والحرفي، ولا بين المد المثقل والمخفف، وكانت أصداء هذا كله تصل إلى سيدنا فتغمه وتحزنه وتخرجه أحيانا عن طوره.
وأخذ الصبي يقرأ القرآن على المفتش من أوله، وأخذ المفتش يعلمه مواضع الوقف والوصل، وأخذ الصبي يقلد المفتش في ترتيله ويحاكي نغمه، وأخذ يقرأ القرآن على هذا النحو في الكتاب ، وجعل أبوه يمتحنه، فإذا سمعه يقرأ على هذا النحو الجديد أعجب وطرب وأثنى على المفتش. وما كان شيء يغيظ سيدنا مثلما كان يغيظه هذا الثناء.
وقضى الصبي سنة كاملة يتردد على هذا البيت، ويقرأ القرآن على المفتش، حتى أتقن التجويد برواية حفص، وكاد يبدأ في رواية ورش لولا أن حدثت حوادث وسافر الصبي إلى القاهرة.
أكان الصبي يحب الاختلاف إلى هذا البيت لأنه كان يعجب بالمفتش، ولأنه كان يحرص على إتقان القرآن وتجويده، وعلى أن يغيظ سيدنا ويظهر التفوق على أترابه؟ نعم! في الشهرين الأولين من هذه السنة، فأما بعد هذين الشهرين فقد كان يجذبه إلى بيت المفتش ويحببه فيه شيء آخر!
كان المفتش متوسط العمر قد بلغ الأربعين إن لم يكن قد جاوزها، وكان قد تزوج من فتاة لم تبلغ السادسة عشرة، ولم يكن له ولد، ولم يكن يعمر بيته الكبير إلا هذه الفتاة وجدة لها قد جاوزت الخمسين. فأما حين بدأ الصبي يختلف إلى هذه الدار فقد كان يذهب ويعود دون أن يلتفت إليه أحد غير المفتش، وما هي إلا أن كثر تردد الصبي حتى أخذت الفتاة تتحدث إليه وتسأله عن نفسه وعن أمه وعن إخوته وعن داره، وأخذ الصبي يجيبها مستحييا، ثم متبسطا، ثم مطمئنا. واتصلت بين هذه الفتاة وهذا الصبي مودة ساذجة كانت حلوة في نفس الصبي لذيذة الموقع في قلبه، وكانت ثقيلة على نفس هذه الشيخة، وكان المفتش يجهلها جهلا تاما.
Halaman tidak diketahui