ولم تتحدث إليه صاحبته في أمر هذا الامتحان، وإنما جعلت تتحدث إليه في أشياء كثيرة ليس بينها وبين السوربون وعنائها صلة، ثم تقبل عليه ذات يوم فلا تكلمه ولا تلقي إليه تحيتها وإنما تقبله ثم تهمس في أذنه: لقد نجحت!
ولم يصدق الفتى ما سمع حتى أنبأته بأنها عائدة من السوربون حيث أعلنت أسماء الناجحين وفيها اسمه.
وعلم الفتى بعد ذلك أن الأستاذ ريمونجون أستاذ الجغرافيا لم يكن غليظ الطبع ولا قليل الحظ من الذوق، فلم يمنحه الصفر الذي كان يستحقه، وإنما منحه درجتين اثنتين ليعصمه من الإخفاق إن أتيح له النجح في غير الجغرافيا من مواد الامتحان.
وتريد الظروف بعد سنين أن يعقد في مصر مؤتمر للجغرافيا، وأن يكون هذا الأستاذ من الذين مثلوا وطنهم في هذا المؤتمر، وأن يلقاه صاحبنا في حفلة من حفلات الشاي التي تكثر حول المؤتمرات، فإذا قدم إليه صافحه وأطال النظر إليه وإلى صاحبته ثم قال متضاحكا: يخيل إلي أني رأيتك!
قال الفتى مغرقا في الضحك: نعم رأيتني، وكدت تضيع علي درجة الليسانس.
قال الأستاذ: الآن ذكرتك ... ولعلك راض عني؛ لأني لم أعطك الصفر الذي كنت له أهلا!
ولم يضحكا وحدهما، وإنما ضحك معهما من كان حولهما من الناس.
وكذلك خلص الفتى من مشكلات الليسانس، وأقبل على الرسالة يتهيأ لمناقشتها مستريح القلب هادئ النفس راضي الضمير، ولكنه لم يلبث أن روع بوفاة الأستاذ دوركيم المشرف الفلسفي على رسالته، وكان الفتى لأستاذه محبا وبه معجبا إعجابا يوشك أن يبلغ الفتون، فأدركه للخطب فيه حزن عميق، ولكن للحياة حقائقها وتبعاتها، وليس بد لهذه الرسالة من أن تناقش، وليس بد لمناقشتها من فيلسوف متخصص في الاجتماع.
وقد استطاعت السوربون أن تندب لمناقشة الفتى في رسالته أستاذا من أساتذتها كان من تلاميذ الأستاذ الفقيد وهو الأستاذ بوجليه. وكذلك تم الاستعداد للمناقشة، ولكن الدكتوراه الجامعية في فرنسا لا يكفي فيها أن تقدم الرسالة وأن تناقش، بل يجب أن يناقش الطالب قبل ذلك في موضوعين يختاران له قبل اليوم الموعود ليتهيأ للخوض فيهما.
ويتصل الفتى بأساتذته الذين سيمتحنونه ليعرف منهم هذين السؤالين، فأما الأستاذ المستشرق فلم يقترح شيئا واكتفى برسالة الطالب عن ابن خلدون، وأما الأستاذ الفيلسوف فاقترح على الفتى موضوعا رآه في أول الأمر عسيرا أشد العسر، ثم لم يلبث أن رآه يسيرا كل اليسر بعد أن عرف الموضوع الثاني الذي اقترحه أستاذ التاريخ، اقترح الأستاذ الفيلسوف: «علم الاجتماع كما يتصوره أجوست كونت»، واقترح أستاذ التاريخ - وكان من مؤرخي الرومان وهو الأستاذ جوستوف بلوك - «القضايا التي رفعت على حكام الأقاليم كما يصورها بلينوس الشاب في رسائله».
Halaman tidak diketahui