ثم التفت إلى إخوانه فقال لهم: هبوا لي هذه القافلة.
ووهب الرفاق القافلة لإياس، وسألت عاتكة عن إياس فعرفته ومضت دون أن تشكره بغير نظرة لقيها إياس بقلبه فنفذت إلى الأعماق واستقرت.
وكان الأمير ما يزال يبحث عن إياس وعصابته، وكان جنده في إثر إياس يريدون أن يأخذوه لأميرهم ليحكم فيه حكمه ويرى رأيه، وكأنما أراد هذا اليوم الذي أطلق فيه إياس أسيرته أن يثبت في حياة إياس فلا يزول أثره.
ما كادت القافلة المطلقة تغيب، وما كاد إياس وجماعته ينفردون بالصحراء حتى أطبق عليهم جند الأمير من كل صوب، حاربوا، ولكن أين الجماعة من جند الأمير.
ومثل إياس أمام الأمير، قطعة من العجز والاستخذاء، آسفا! كسيف الوجه، حطيم السيف لم يبق فيه من إياس الأمس بقية، إلا من قوة الشخصية لمحة وإنما هو راكع يستجدي العطف وقد كان يمنحه، ويسأل الشفقة وقد كان يمقتها، ويلتمس الغفران وما كان يعرفه، بقية رجل! بقية باقية من إياس الأمس الذي كان يملأ الصحراء عنفا وقهرا وجبروتا! بقية هي الجسم بلا كرامة، وهي الدماء بلا عزة، وهي المشاعر بلا حياة.
وفي زاوية من زوايا الحجرة ألقى به الحراس كقطعة من الهمل وشاء الملك أن يزيده ذلا فما التفت إليه، بل هو ينظر في أمور دولته يقيم من أمورها ما شاء ويصرف من شئونها ما يبغي حتى إذا فرغ ولم يبق له من عمل يعمله، التفت إلى إياس في ازدراء مهين ثم رفع نظره وقال للحراس: لماذا جئتم به إلى هنا، ألم آمر أن تلقوا به إلى السياف.
وامتقع وجه إياس، وراح الحراس يتهامسون يلقي كل منهم التبعة على صاحبه، وتحسس إياس صوته بكلمات تحركت بها شفتاه بعض الحين حتى استطاع آخر الأمر أن يكتمل الصوت هونا ويخرج إلى الفضاء ليبلغ مسامع الأمير. - ألتمس عفوك يا مولاي. - أي عفو تريد وقد كنت تملأ الصحراء رعبا؟ - يعلم الله وحده ما عدوت على وحيد، ولا قسوت على فقير. - ومال الأغنياء، أظننت نفسك إلها تقسم الأرزاق؟ - رضعت يا مولاي الحقد وأنا طفل صغير؛ كرهت أمي فكرهت الناس جميعهم. - وماذا جنى الناس حتى تصيبهم ببلائك؟ - سعد الناس وما سعدت، ورأوا العطف وذقت الهون. - فشارك الناس سعادتهم وانس حقدك. اعمل في شريف الأعمال تنل السعادة التي تبغيها، أما أن تسرق وتنهب وتقطع الطريق الآمن على سالكيه فهذا اغتصاب للسعادة. والسعادة لا تغتصب، أكنت حين تنام وتخلو إلى وسادتك ونفسك تحس أنك أبلغت نفسك مناها، ونلت من السعادة ما فقدت؟! - شهد الله يا مولاي، لا. - فأي سعادة تلك التي تراءى وتهرف عن فقدانك لها، أنت لص، خرج عن أوامر الدين ولا بد من عقابك. - مولاي، إن الله يقبل التوبة فوالله الذي خالفت أوامره والذي ما أشركت به يوما لو لم يمسك بي جنودك لكنت الآن في موقفي هذا منك أطلب العفو تائبا راجعا إلى الله. - وأي جديد قد ألم بك حتى تسلم نفسك بلا جنود؟ - عرفت طريقي إلى السعادة الحقة يا مولاي وقد كنت موشكا أن أسير فيه. - وما الذي منعك؟ - جنودك يا مولاي، توبتي أمامك الآن تخالها منبعثة من الخوف، والله لا يبعثها إلا خوفي من أن ألقى الله بلا توبة في الحياة. - إيه إياس، لا تخش هذا فإن الله يعلم ما في القلوب، وأما نحن فما نعرف غير الأعمال الظاهرة فإن قتلت الآن فالله سبحانه وتعالى سيقبل توبتك في الآخرة. - إنه سبحانه يقول إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا، وإني يا مولاي أتوب الآن، وما كفرت بالله حتى أعود إلى الإيمان، وأما العمل الصالح فكل رجائي يا مولاي أن تتيح لي الفرصة أن أعمله. - ما أرى إلى ذلك سبيلا. - هيئ لي الحياة يا مولاي أعمل صالحا قبل لقاء ربي. - ألم تعمل في حياتك عملا صالحا؟ - لعلي يا مولاي عملت، ولكني أتبعت الحسنة بالسيئة والسيئات يا مولاي يذهبن الحسنات، مولاي هب لي الحياة، تهب للحياة إنسانا نادما على شر أو غل فيه، مقبلا على خير يهفو إليه. - وحياة الآمنين الذين روعت، وأموال المسافرين التي نهبت. - إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا. - وماذا أقول أنا لربي إن لقيني عافيا عن مجرم، صافحا عن لص؟ - إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا.
والتفت الأمير إلى حراسه يقول لهم: ألقوا به في السجن.
وألقي إياس إلى السجن ينتظر الحكم عليه، هكذا المصير! لم يجفل من السجن ولم يخف فقد كان يرى فيه إحدى نهايتين لطريقه الذي اختاره لنفسه من الحياة، كان يعلم أنه طريق لا بد أن ينتهي به إلى السجن أو إلى الموت. وقد كان السجن أقرب النهايتين وهو ذا فيه. ومن يدري لعله يؤدي به إلى الطريق الآخر، فيجمع النهايتين في واحدة والأمر لله من قبل ومن بعد.
هكذا كان يفكر إياس حين دخل السجان يحمل كيسا مليئا بالمال وسأله إياس: ماذا تريد؟ - امرأة تريد أن تلقاك. - تلقاني أنا؟ - نعم، لقد رفضت أن أدخلها إليك، ولكنها أعطتني هذا الكيس وبه مائة دينار، ولم أر في حياتي حجة مقنعة مثل هذا المال الذي أحمله الآن، مائة دينار يا سيدي، إنها ستلقاك، ستلقاك حتى وإن رفضت أنت أن تلقاها. - ومن هي؟ ما شأنها؟ ماذا تريد؟
Halaman tidak diketahui