وينسى عبد الله أفندي ابنه الذي يرسف في السجن، وينسى تلاميذه الذين ينتظرونه وينسى السيد فتحي الذي يقهقه قهقهة عالية صاخبة، ينسى كل شيء ولا يذكر إلا أنه أمام جمال صاعق لا يمكن للعين أن تظل ناظرة إليه، ولا يمكن للعين أن تنصرف عنه، ويضحك هذا الجمال من منظر عبد الله أفندي، وقد زادته الدهشة استدعاء الضحك ويتكلم هذا الجمال: ما لك؟ اقعد، ما لك لا تتكلم؟
فيجيب عبد الله في ارتباك شديد: نعم، نعم أقعد.
وتبدأ الجلسة، وتأتي السيدة الشقراء بالخمر، وحينئذ يفيق عبد الله أفندي إلى نفسه قائلا: ماذا؟ خمر؟ - لا، «ويسكي». - أنا لا أشرب الخمر يا سيدتي. - لأجل خاطري. - لا يا سيدتي. - خاطري أنا. - أشرب.
ويشرب، وتنفك عقدة لسانه فيتكلم عن دقته في الوزارة وعن أعماله كلها، عن جهاده وعن ذكائه، وعن لباقته، وكلما تكلم ضحك السامعان، وكلما ضحكا ظن أنهما معجبان به.
وفجأة سألته الغانية: قل لي يا عبد الله أفندي، هل أنت متزوج؟ - نعم. - وهل عندك أولاد؟
وما إن يسمع عبد الله أفندي هذا السؤال حتى ينخرط في بكاء شديد!
ويذهل الجالسان! ولكنه لا يبالي دهشتهما، ويقوم المخبول مهرولا إلى باب الشقة وينزل في سرعة مجنونة إلى الشارع لا يجيب الأسئلة التي تلاحقه، وما إن يلمح أول تاكسي حتى يناديه وهو ما يزال يبكي.
وقبيل المغرب كان عبد الله أفندي يسير معتمدا على ولده سعيد ناسيا كل شيء عن دقته، فخطواته مضطربة تسرع حينا وتتمهل حينا، ووجهه مضطرب يبتسم حينا ويعبس حينا، وحديثه إلى ابنه مضطرب، ولكنه لا يعنف في هذا الحديث أبدا، ولا يلقي فيه بأوامره وإنما هو حديث سلمي، ميسور، ولكنه مضطرب.
وصعدا معا إلى الطابق الأعلى دون أن يعد السلالم، ودون أن يراعي أي رقم في صعوده.
ومنذ ذلك اليوم لم يذهب عبد الله أفندي إلى منزل السيد فتحي أبدا، ومنذ ذلك اليوم تعلم عبد الله أفندي ألا يلقي لأبنائه بالأوامر الصارمة، وإنما هو يناقش ويبحث ويفهمهم ما يريد في غير صرامة، وفي غير عنف، وفي غير دقة.
Halaman tidak diketahui