صاح فلوري : «انتبهي! أسرعي، ها هي آتية!»
انطلق نحوهم سرب من الحمام الأخضر بسرعة فائقة، على ارتفاع أربعين ياردة. كان مثل حفنة من أحجار المنجنيق تدور في السماء. صارت إليزابيث عاجزة من فرط الإثارة. وظلت للحظة غير قادرة على الحركة، ثم دفعت بماسورة سلاحها في الهواء، في مكان ما في اتجاه الطيور، وسحبت الزناد بعنف. لم يحدث شيء؛ إذ كانت تشد واقية الزناد. بمجرد أن مرت الطيور فوق رءوسهم وجدت الزنادين وشدتهما في نفس الوقت. وقعت ضجة تصم الآذان وتراجعت هي خطوة للوراء وقد كادت عظمة ترقوتها أن تنكسر. كانت قد أطلقت النار وراء الطيور بثلاثين ياردة. وفي اللحظة نفسها رأت فلوري وهو يستدير ويصوب بسلاحه. توقفت حمامتان عن الطيران ودارتا ثم سقطتا على الأرض مثل سهمين. صاح كو سلا، واستبق هو وفلو إليهما.
قال فلوري: «انظري! ها هو حمام إمبراطوري، هيا نصطاده!»
ثم جاء يرفرف فوقهم طائر كبير ثقيل، أبطأ في الطيران من الآخرين بكثير. لم ترغب إليزابيث في إطلاق النار بعد ما كان من إخفاقها السابق. شاهدت فلوري وهو يدخل الخرطوش في المغلاق ويرفع سلاحه، وعمود الدخان الأبيض وهو ينبعث من الفوهة. ارتطم الطائر بالأرض وقد انكسر جناحه. وجاءت فلو وكو سلا ركضا متحمسين، فلو بالطائر الإمبراطوري الكبير في فمها، وكو سلا مبتسما وهو يخرج الحمامتين الخضراوين من حقيبة كتف مطرزة.
أخذ فلوري إحدى الجثتين الخضراوين الصغيرتين ليريها لإليزابيث. «انظري إليها، أليست كائنات جميلة؟ أجمل طائر في آسيا.»
لمست إليزابيث ريشها الأملس بطرف إصبعها، فامتلأت نفسها بحسد مرير؛ لأنها لم تصبها. لكن كان غريبا أنها شعرت بما يشبه الإعجاب تجاه فلوري بعد أن رأت كيف يستطيع الرماية. «فلتنظري إلى ريش صدره؛ مثل الجوهرة. إنها لجريمة أن نطلق عليها النار. يقول البورميون إن هذه الطيور تتقيأ حين تقتلها، كأنها تقصد بذلك أن تقول: «انظر، هذا كل ما أملك، فإنني لم آخذ منك شيئا. فلماذا قتلتني؟» لكن لا بد أن أقر أنني لم أر واحدا منها يفعل ذلك.» «هل هي شهية؟» «جدا ، لكن حتى مع ذلك دائما ما أشعر أنه من المخزي نقتلها.»
قالت إليزابيث بحسد: «ليتني أستطيع الرماية مثلك!» «إنها مجرد مهارة، وسوف تتعلمينها سريعا. إنك تعرفين كيف تمسكين السلاح؛ وذلك أفضل من حال كثير من الناس حين بدءوا.»
بيد أن إليزابيث ظلت دون أن تصيب شيئا في المطاردتين التاليتين. تعلمت ألا تطلق النار من مرة واحدة، لكنها كانت في فورة من الحماس أعجزتها حتى عن تسديد سلاحها. أصاب فلوري عدة حمامات أخرى، ويمامة برونزية الجناح صغيرة بظهر أخضر مثل الزنجار. أما دجاج الأدغال فكان أمكر من أن يكشف عن نفسه، وإن كان صوت قرقه ظل مسموعا طوال الوقت، وصياح الديوك الحاد مرة أو مرتين. هكذا راحوا يتوغلون أكثر في الغابة؛ حيث كان الضوء مائلا للون الرمادي، مع بقع من ضوء الشمس المبهر. كان المرء أينما يتجه بنظره يجد نفسه محاصرا بصفوف محتشدة من الأشجار، والشجيرات المتشابكة والنباتات المتسلقة التي عافرت حول قواعدها كما يعافر البحر حول قوائم رصيف الميناء. كانت كثيفة جدا، مثل أجمة من الشجيرات الشائكة ممتدة ميلا بعد ميل، حتى ليضيق نظر المرء بها. كانت بعض النباتات المتسلقة ضخمة، مثل الحيات. كابد فلوري وإليزابيث في عبور مسارات ضيقة للحيوانات، وصعود ضفاف زلقة، والأشواك تمزق ملابسهما، وقد صار قميص كل منهما غارقا في العرق. ساد الجو حر خانق، مع رائحة أوراق الشجر المسحوقة. أحيانا كانت بعض حشرات السيكادا المستترة تردد لبضع دقائق متواصلة صريرا، له رنة معدنية مثل نقر وتر جيتار من الصلب، ثم تتوقف ليسود هدوء يلقي في النفس الفزع.
وهم في طريقهم إلى المطاردة الخامسة وصلوا إلى شجرة تين مجوسي ضخمة، بلغ الأسماع من أعلاها صوت هديل حمام إمبراطوري. كان الصوت كأنه خوار بقر آت من بعيد. برز أحد الطيور وحط وحيدا على أعلى فرع، فبدا شيئا رماديا صغيرا. قال فلوري لإليزابيث: «فلتجربي إطلاق النار جالسة. ركزي بصرك عليه واسحبي الزناد دون انتظار. ولا تغمضي عينك اليسرى.»
رفعت إليزابيث سلاحها، الذي كان قد طفق يرتجف كالعادة. تلبث مثيرو الطرائد في مجموعة للمشاهدة، ولم يستطع بعضهم أن يمتنعوا عن الطرقعة بألسنتهم؛ فقد اعتقدوا أنه من الغريب والصادم نوعا ما أن يروا امرأة تحمل سلاحا. بجهد عنيف حافظت إليزابيث على ثبات سلاحها لثانية، وسحبت الزناد. لم تسمع الطلقة؛ فالمرء لا يسمعها مطلقا حين تصيب الهدف. بدا أن الطائر قفز عاليا من على الفرع، ثم هوى، وظل يتدحرج، حتى تعلق في تفريعة ثم على ارتفاع عشر ياردات. وضع أحد مثيري الطرائد سيفه وراح يرمق الشجرة ليقدر الوضع؛ ثم سار إلى نبات متسلق ضخم، في سمك فخذ رجل وفي التواء عود السكر بالشعير، تدلى بعيدا من أحد الفروع. صعد جريا النبات المتسلق بسهولة كما لو كان سلما، وسار منتصب القامة على الفرع العريض، وهبط بالطائر إلى الأرض. ثم وضعه رخوا ودافئا في يد إليزابيث.
Halaman tidak diketahui