وقد طرأ الأمر بمائة طريقة. مثل أن يمر بهم زمرة من البورميين على الطريق، فكانت تحدق فيهم، بعينين ما زالتا لم تألفا المنظر بعد، بفضول من ناحية ونفور من ناحية أخرى؛ وكانت عندئذ تقول لفلوري، كما قد تقول لأي شخص: «كم يبدو هؤلاء الناس دميمين إلى درجة مقززة، أليس كذلك؟» «حقا؟ طالما اعتقدت أنهم بالأحرى يتمتعون بمظهر جذاب، هؤلاء البورميون. فلديهم أبدان غاية في الروعة! انظري إلى منكبي ذلك الشخص ... كأنه تمثال برونزي! فقط تخيلي المناظر التي قد ترينها في إنجلترا لو أن الناس ساروا نصف عرايا كما يفعلون هنا!» «لكن رءوسهم تبدو بشعة للغاية! جماجمهم ترتفع من الخلف نوعا ما مثل رءوس القطط الذكور. كذلك الطريقة التي تميل بها جباههم للوراء، تجعلهم يبدون أشرارا جدا. أتذكر أنني قرأت في مجلة شيئا عن أشكال الرءوس؛ قيل إن الشخص ذا الجبهة المائلة من النمط المجرم.» «مهلا، في ذلك بعض التعميم! نحو نصف الناس في العالم لديهم ذلك الشكل من الجبهة.» «حسنا، إذا حسبت الناس الملونين، بالطبع!»
أو قد تمر مجموعة من النساء، ذاهبات إلى البئر؛ فتيات فلاحات، متينات البنيان، نحاسيات البشرة، مستقيمات، انتصبت قاماتهن أسفل جرات الماء وبرزت أكفالهن القوية الشبيهة بأكفال الفرس. كانت النساء البورميات يثرن نفور إليزابيث أكثر من الرجال؛ لشعورها بانتسابها لنفس الجنس، وكراهة أن تنتسب إلى كائنات بوجوه سوداء. «ألسن حقا شديدات البشاعة؟ مظهرهن في غاية الغلظة؛ وكأنهن نوع من الحيوانات. هل تعتقد أنه يمكن لأي شخص أن يجد أولئك النساء جذابات؟» «رجالهن يجدونهن كذلك، على ما أعتقد.» «أعتقد ذلك. لكن ذلك الجلد الأسود ... لا أعلم كيف يستطيع أي شخص تحمله!» «أظن أن المرء يعتاد على الجلد الأسمر مع الوقت. إذ يقال - وأظنه حقيقة - إنه بعد بضع سنوات في هذه البلاد يألف المرء الجلد الأسمر أكثر من الأبيض؛ فهو المألوف أكثر على كل حال. إذا نظرت للعالم ككل، وجدت الأبيض حالة شاذة.» «لديك حقا بعض الأفكار الغريبة!»
وهكذا دواليك. ظلت تستشعر طوال الوقت شيئا غير مرض ولا سليم في الأشياء التي يقولها. حدث ذلك بوجه خاص في ذلك المساء حين سمح فلوري للسيد فرانسيس والسيد صامويل، الأوروبيين الآسيويين المنبوذين، بتوريطه في محادثة عند بوابة النادي.
تصادف أن إليزابيث كانت قد وصلت النادي قبل فلوري ببضع دقائق، وحين سمعت صوته لدى البوابة دارت حول شبكة التنس لملاقاته. كان الأوروبيان الآسيويان قد انسلا نحو فلوري وحاصراه مثل زوج من الكلاب يريد اللهو. تولى فرانسيس أغلب الحديث. كان رجلا نحيلا، سريع الانفعال، وفي سمرة ورق السيجار، لكونه ابن امرأة من جنوب الهند؛ أما صامويل الذي كانت أمه من عرق الكارين، فكانت بشرته صفراء شاحبة وشعره أحمر باهتا. كان الاثنان يرتديان بذلتين رثتين من قماش الدريل القطني، وقبعتين كبيرتين بدا جسداهما النحيلان أسفلهما مثل عيدان الفطر.
أخيرا قطعت إليزابيث الممشى فسمعت مقتطفات من سيرة ذاتية هائلة ومعقدة. إذ كان فرانسيس يجد في الحديث مع الرجال البيض - الحديث الذي يفضل أن يدور حوله هو نفسه - مصدر سعادة كبرى في حياته. وحين كان يجد، كل بضعة أشهر، واحدا من الأوروبيين ليستمع إليه، كان تاريخ حياته ينهمر منه في سيول من حمم لا تنطفئ. هكذا راح يتحدث بصوت أخنف رتيب النبرة مدهش السرعة، قائلا: «أتذكر القليل عن أبي يا سيدي، لكنه كان رجلا غضوبا جدا وكان كثيرا ما ينهال ضربا بخيزرانة كبيرة مليئة بالنتوءات علينا جميعا أنا وأخي الصغير غير الشقيق وأمي وأمه. أتذكر أيضا كيف كنت أنا وأخي الصغير غير الشقيق عند زيارة الأسقف نشد علينا الأزر ونرسل للوقوف بين الأطفال البورميين لنظل متخفيين. لم يرق أبي منصب أسقف قط يا سيدي. فقد جعل أربعة أشخاص فقط يعتنقون المسيحية خلال ثمانية وعشرين عاما، كما أن ولعه الشديد بخمر الأرز الصيني كان له صدى غاضب جدا بالخارج وأفسد مبيعات كتيب أبي الذي كان بعنوان «بلاء الكحول»، الذي نشرته دار رانجون بابتيست بريس، مقابل روبية وثماني آنات. أما أخي الصغير غير الشقيق فمات من الجو الحار، بعد أن ظل يسعل، ويسعل ... إلخ».
لاحظ الرجلان الأوروبيان الآسيويان وجود إليزابيث، فخلعا قبعتيهما منحنيين وكاشفين عن أسنانهم اللامعة. ربما مرت سنوات عدة منذ تسنى لأي منهما فرصة الحديث مع امرأة إنجليزية. انطلق فرانسيس في الحديث بإفراط أكثر من ذي قبل. فجعل يثرثر في خوف واضح من أن يقاطعه أحد وتنتهي المحادثة. «مساء الخير عليك يا سيدتي، مساء الخير، مساء الخير! تشرفت جدا بمعرفتك يا سيدتي! الجو شديد القيظ هذه الأيام، أليس كذلك. لكنه ملائم لطقس شهر أبريل. أرجو ألا يكون قد أصابك طفح جلدي من الحرارة. دهن المنطقة المصابة بمعجون التمر هندي دواء ناجع. أنا نفسي أكابد منه آلاما كل ليلة. إنه مرض شديد الانتشار بيننا نحن الأوروبيين.»
نطق «الأوروبيين»، مثل السيد شالوب في رواية «مارتين شازلويت». لم تحر إليزابيث جوابا، وراحت تنظر إلى الأوروبيين الآسيويين بشيء من البرود. لم يكن لديها فكرة واضحة من هما أو ماذا، وبدا لها من الصفاقة أن يتحدثا إليها.
قال فلوري: «شكرا، سوف أتذكر التمر هندي.» «إنها وصفة طبيب صيني مشهور يا سيدي. كذلك، هل تسمحان لي يا سيدي وسيدتي أن أسدي إليكما النصح، فارتداء القبعة الصغيرة وحدها ليس تصرفا حكيما في أبريل يا سيدي. هو مناسب تماما لأهل البلد، فلديهم جماجم صلبة. أما نحن فضربات الشمس تهددنا دائما. الشمس شديدة الخطورة على الجمجمة الأوروبية. هل عطلتك يا سيدتي؟»
قيل هذا بنبرة إحباط. إذ كانت إليزابيث في الواقع قد قررت ازدراء الرجلين الأوروبيين الأسيويين. لم تدر لماذا سمح فلوري لهما بتعطيله بمحادثة. وحين استدارت عنهما لتسير عائدة لملعب التنس، لوحت بمضربها في الهواء، لتذكر فلوري أن ميعاد المباراة قد أزف. وقد رآها وتبعها، على مضض بعض الشيء، إذ لم يكن يحب معاملة فرانسيس المسكين بازدراء، مع أنه كان مملا جدا.
قال فلوري: «لا بد أن أمضي. طاب مساؤك يا فرانسيس. طاب مساؤك يا صامويل.» «طاب مساؤك يا سيدي! طاب مساؤك يا سيدتي! طاب مساؤكما، طاب مساؤكما!» تراجعا بمزيد من التلويح بقبعتيهما.
Halaman tidak diketahui