ساور إليزابيث شك كبير. فعلى نحو ما لم يبد من الصحيح ولا حتى الآمن أن تخوض بين ذلك الحشد الكريه الرائحة من أهل البلد. إلا أنها كانت تثق في فلوري، الذي كان من المفترض أنه على علم بما يصح، وسمحت له بأن يتقدمها إلى المقاعد. أفسح البورميون الطريق على حصائرهم، وهم يحدقون إليها ويثرثرون؛ احتكت قصبتا ساقيها بأجساد دافئة متلفعة بالموسلين، وفاحت زهمة عرق همجية. مال يو بو كين ناحيتها، منحنيا بقدر ما استطاع وقال بصوت به غنة: «تفضلي بالجلوس يا سيدتي! يشرفني أيما شرف التعرف عليك. مساء الخير. صباح الخير يا سيدي، السيد فلوري! يا لها من مفاجأة سارة. لو كنا نعلم أننا سنتشرف بصحبتك لكنا وفرنا الويسكي وسائر المرطبات الأوروبية. ها ها!»
ضحك فالتمعت في ضوء المصابيح أسنانه التي حمرها نبات التانبول مثل ورق قصدير أحمر. كان في غاية الجسامة وفي غاية البشاعة حتى إن إليزابيث لم تملك ألا تنكمش منه. في نفس الوقت كان شابا نحيفا يرتدي إزارا أرجوانيا ينحني أمامها مادا صينية عليها قدحا شربات أصفر، مثلج. صفق يو بو كين كفيه بعنف ونادى على صبي بجواره قائلا: «يا أيها الصبي!» أعطاه بعض التعليمات باللغة البورمية، فشق الصبي طريقه إلى حافة المسرح.
قال فلوري: «إنه يطلب منهم أن يأتوا بأفضل راقصة لديهم على شرفنا. انظري، ها قد أتت.»
تقدم إلى ضوء المصابيح فتاة كانت جالسة القرفصاء تدخن في مؤخرة خشبة المسرح. كانت صغيرة السن جدا، نحيلة المنكبين، غائرة الصدر، ترتدي إزارا أزرق فاتحا من الساتان أخفى قدميها. كانت حواشي بلوزتها مقوسة للخارج في أطواق صغيرة فوق ردفيها، على غرار الموضة البورمية القديمة، فبدت مثل بتلات زهرة متجهة إلى أسفل. ألقت الراقصة بالسيجار بفتور إلى أحد الرجال في الفرقة الموسيقية، ثم بسطت إحدى ذراعيها النحيلتين ولوتها كأنها تريد إرخاء عضلاتها.
انطلقت الفرقة الموسيقية في ضجيج عال مفاجئ. كان هناك مزامير مثل آلة مزامير القربة، وآلة غريبة مكونة من ألواح من البامبو، راح رجل يضربها بمطرقة صغيرة، وفي الوسط كان رجل أحاطت به اثنتا عشرة طبلة طويلة مختلفة الأحجام. وكان ينتقل من واحدة إلى أخرى سريعا، ببطن يده. وخلال لحظة بدأت الفتاة ترقص. لكنه لم يكن رقصا في البداية، وإنما كان حركات متناغمة من هز الرأس، واتخاذ وضعيات ولوي المرفقين، شبيهة بانثناءات واحدة من تلك الدمى الخشبية فوق إحدى الأرجوحات الدوارة القديمة. كان عنقها ومرفقاها في دروانها تماما مثل دمية، لكنها أفعوانية إلى حد مدهش. كانت يداها، اللتان تلوتا مضمومتي الأصابع مثل رأسي حيتين، تستطيعان أن تمتدا للوراء حتى تكادا تصيران محاذيتين لساعديها. ثم تسارعت حركاتها تدريجيا، وراحت تقفز من ناحية إلى أخرى، وهي تهبط بجسمها فيما يشبه الانحناء للتحية وتنهض مرة أخرى برشاقة غير عادية، رغم الإزار الطويل الذي حبس قدميها. ثم رقصت في وضعية غريبة كأنها جالسة، وقد ثنت ركبتيها ومالت بجسدها إلى الأمام ومدت ذراعيها تلويهما، ورأسها أيضا يتحرك على إيقاع الطبول. تسارعت وتيرة الموسيقى حتى بلغت الذروة، فقامت الفتاة منتصبة وراحت تدور سريعا مثل البلبل الدوار، وطوق بلوزتها يرفرف حولها مثل بتلات زهرة اللبن الثلجية. ثم توقفت الموسيقى بغتة كما بدأت، وهبطت الفتاة مرة أخرى منحنية تحية، وسط صياح هادر من الجمهور.
شاهدت إليزابيث الرقصة بمزيج من الذهول والملل وشيء يشارف الرعب. كانت قد احتست شرابها ووجدت مذاقه مثل زيت الشعر، فيما راح في سبات عميق على حصيرة قريبة من قدميها ثلاث فتيات بورميات واضعات رءوسهن على الوسادة ذاتها، وقد بدت وجوههن البيضاوية الصغيرة المتراصة مثل وجوه هريرات. في ظل الموسيقى كان فلوري يتحدث بصوت خفيض في أذن إليزابيث معلقا على الرقصة. «عرفت أن هذا سيثير اهتمامك؛ لذلك أحضرتك إلى هنا. فقد قرأت كتبا وذهبت إلى أماكن ذات حضارة، ولست مثل بقيتنا نحن الهمج البؤساء هنا. ألا تعتقدين أن هذا يستحق المشاهدة، بأسلوبه الغريب؟ فلتنظري فحسب إلى حركات تلك الفتاة، انظري إليها في ذلك الوضع الراكع الغريب كأنها دمية ماريونيت، والطريقة التي تتلوى بها ذراعاها من المرفقين كأنها كوبرا ترتفع لتنقض. إنه شيء غريب، بل إنه قبيح، نوع من القبح المتعمد. كما يشوبه شيء شرير أيضا. فكل المغوليين بهم مس شيطاني، لكن حين تمعنين النظر، فأي فن، وأي قرون من الثقافة تجدينها خلفه! كل حركة تؤديها تلك الفتاة جرت دراستها وتناقلها على مر أجيال لا تحصى. متى أمعنت النظر في فنون هذه الشعوب الشرقية، رأيت ذلك؛ حضارة تعود إلى الماضي السحيق، تقريبا في نفس الزمان الذي كنا نكتسي فيه بدهان أجسادنا بصبغة نبات الوسمة. بطريقة لا أستطيع وصفها لك، تتلخص حياة بورما بأكملها وروحها في الطريقة التي تلوي بها تلك الفتاة ذراعيها. وأنت تشاهدينها تستطيعين أن تري حقول الأرز، والقرى الواقعة أسفل أشجار الساج، والمعابد، والقساوسة في أرديتهم الصفراء، والجاموس وهي تسبح في الأنهار في الصباح الباكر، وقصر ثيبو ...»
توقف صوته فجأة مع توقف الموسيقى. كان ثمة أمور معينة، منها رقصة البوي، حثته على الحديث باستطراد وبلا حذر؛ لكنه أدرك الآن أنه إنما كان يتحدث مثل شخصية في رواية، بيد أنها ليست برواية جيدة، فأشاح ببصره بعيدا. كانت إليزابيث قد أصغت له بفتور لشعورها بالضيق. كان أول ما طرأ على بالها التساؤل: ما الذي كان هذا الرجل يتحدث عنه؟ كما أنها التقطت كلمة فن التي تبغضها أكثر من مرة. ولأول مرة تذكرت أن فلوري غريب عنها تماما وأنه لم يكن من الحكمة أن تخرج معه بمفردها. نظرت حولها إلى بحر الوجوه داكنة البشرة والوهج الصارخ للمصابيح؛ كادت غرابة المشهد أن توقع فيها الرعب. ما الذي كانت تفعله في هذا المكان؟ من المؤكد أنه لم يكن من الصواب أن تجلس بين الناس السود هكذا، تكاد تلامسهم، تغمرها رائحة ثومهم وعرقهم. لماذا لم تعد أدراجها إلى النادي لتكون مع سائر الناس البيض؟ لماذا أتى بها إلى هنا، وسط هذا الحشد من السكان الأصليين، لتشاهد هذا العرض البشع والهمجي؟
انطلقت الموسيقى، وبدأت فتاة المهرجان ترقص مرة أخرى. كان وجهها مغطى بطبقة كثيفة من البودرة حتى إنه لاح في ضوء المصابيح كأنه قناع من الطبشور خلفه عينان حيتان. كانت مسخا بذلك الوجه البيضاوي الأبيض كبشرة الموتى وتلك الحركات المتيبسة كالخشب، كأنها شيطان. غيرت الموسيقى سرعة إيقاعها، وشرعت الفتاة تغني بصوت عال مزعج. كانت أغنية ذات إيقاع سريع، مرح لكن شديد. واشترك الحشد في الغناء، فراح مائة صوت يردد المقاطع المزعجة في انسجام. وظلت الفتاة وهي في وضع الانحناء الغريب تدور وترقص وقد برز ردفاها تجاه الجمهور، بينما لمع إزارها الحريري مثل المعدن. وراحت تهز عجيزتها ذات اليمين وذات اليسار وما زالت يداها ومرفقاها يدوران. ثم راحت تلوي ردفيها منفصلين على إيقاع الموسيقى، بمهارة مدهشة، بانت جلية من خلال الإزار.
تصاعدت صيحة استحسان من الجمهور. واستيقظت الفتيات الثلاث النائمات على البساط في نفس اللحظة وجعلن يصفقن بحماس. وهتف واحد من الكتبة بصوت أخنف: «أحسنت! أحسنت!» باللغة الإنجليزية من أجل الأوروبيين. لكن يو بو كين عبس ولوح بيده، إذ كان يفهم النساء الأوروبيات جيدا. إلا أن إليزابيث كانت قد هبت واقفة بالفعل.
وقالت بفظاظة: «سأرحل. حان الوقت لنعود.» رغم أنها كانت قد تولت بوجهها عنه، فقد استطاع فلوري أن يرى أن وجهها كان متوردا.
Halaman tidak diketahui