فعجب الشيخ كل العجب، ثم أشار إلى أحد الواقفين بإشارة فغاب خمس دقائق وجاء ومعه حيوان هائل عظيم الجثة له أرجل يمشي بها، مثبت فيها عجل أسرع من القطار له أجنحة، فمشى أمامي وجرى بالعجلة أسرع من القطار، وطار في الجو بالأجنحة وهو محدب الأنياب والمخالب. فقال: أنتم كهذا الحيوان، إنه يطير ويجري، ويعدو، ويسبح في البحر، ويغطس في الماء، ويأكل، ويعيش، وصوته بعيد المدى يسمعه المشرقان. فقال: إذن لست بإنسان.
حينئذ زويت لي الدنيا كلها، وأصبح لدي الغربي والشرقي وسائر النوع الإنساني في مستوى واحد، فأخذت إذن أفتخر بأعمال العلماء في جميع الملل والنحل، وابتدأت بالأنبياء، وذكرت أعمالهم وعلومهم وهديهم. قال: أنا أعلم بهم منك، ولكن أوصافك لبني جنسك دلتني على أنكم لم تتجاوزوا الحيوانية قيد شبر، ولم تسمعوا كلامهم ولم تعملوا به، ولعلكم اكتفيتم بظواهر الرسوم، وعجزتم عن الصدق والإخلاص وسائر الأعمال الباطنة. فقلت: فينا المخترعون والمكتشفون في سائر الفنون كإسحاق نيوتن في الفلك وداروين في الفلسفة. فقال : هل منهم من أحد حاول انتفاع الإنسان كله؟ قلت: نعم، اسبنسر الإنجليزي وآخرون غائب عني أسماؤهم. فقال: دع عنك ذكر الفلاسفة والحكماء، فليس بحكيم من قصر عقله على أمة.
ألا إنما الحكماء نواب الله عز وجل في أرضه، فإذا رأيت المرء مغرما بسعادة الأمم، دائبا لراحتهم، مكبا على دفع الأذى عنهم فاعلم أنما هو الحكيم النائب عن ربه، ومن عداه من علماء الأمم فإنما هم رجال صناعة كالتجار والزراع والموسيقيين وأحزابهم. فقلت: وعندنا من العلماء العلامة كاميل فلامريون الفرنساوي يجد في اكتشاف طبقات الأرض لنفع الإنسان. قال: عمل شريف ولكنه سعي للحيوانية، هل سعى أحد في تخفيف الحرب؟ قلت: أقوام يقال لهم: الاشتراكيون، وقد قال أديسون الأمريكي: إن الحرب ستبطل بإفلاس الدول، فإنهن إذا أثقلت كواهلهن بالديون، وصفرت جيوب الرعايا من الدراهم، ثارت في وجوه الحكام، وأبطلت الحرب، فأنغض رأسه وقال: كما تتناطح الكباش والأعنز والثيران، فإنها لا تزال في نطاح حتى تضعف إحداها أو يتساقط المتناطحان.
أين الإنسان؟ إن أقوال علمائكم دلتني على خيبة الأمل فيكم، لا عقول، أين العقول؟ لقد وضح الحق واستبان السبيل، إنكم آساد من أقبح الآساد، فإذا كانت نتائج العقل البهيمية والسبعية فإنكم أنعام وآساد، فلا تتعالوا على الحيوان، وقولوا: نحن حيوان معنى إنسان حسا، ألا لا خير في الجسوم، ولا مدار على الصور، إنما الأمر كل الأمر في الأرواح والأعمال والآراء، هنالك طفقت أدافع عن الإنسان بالقضايا المعروفة. فقلت: أليس الأقوى له حق الأشراف على الأضعف، أليس في النمل سادة وعبيد، أليس النبات الأقوى يبيد الأضعف إذا اجتمعا، إن هذه قضايا بحثها علماؤنا، وليست تقبل النقض ولا التأويل. فقال: كم من قوي وضعيف جمعتهما السنن الطبيعية، وأقامتهما النواميس الكونية، ألم تر أن الفيل والنمل تعيش في مكان واحد فوق الشجرة وتحتها وفي ثنايا الأرض. فقلت: إن ذلك بحواجز طبيعية. فقال: وما منعكم أن تجنحوا إلى حواجز بعقولكم وأسوار تحد عاديات بعضكم عن بعض، ولئن رأيتم الباشق أكل العصفور، وأكل العصفور الدود، وأكل الدود جسم الإنسان، وأكل الإنسان العصفور، ثم شاهدتم الأسد يسطو على الغزال والأرنب فيأكلهما، فليس معنى ذلك أن يقتل الإنسان الإنسان أو يقهره بلا حق، وإنما هو نظام واجب، فإن آكلات اللحوم من الطيور والوحوش حكم عليها أن لا تأكل إلا اللحوم، فوظيفتها في العالم الحيواني وظيفة الأطباء في العالم الإنساني.
إن الوحوش الكاسرة والطيور الجارحة تصد عنكم هجمات الميكروبات الضارة بالوباء العام الناجم من جثث الحيوانات الميتة، فلولاها لخلت الأرض من ساكنيها وأصبحت الدار تنعي بانيها، فأما اتخاذ النمل لها عبيدا فما أشبهه إلا باتخاذكم العجول والبقر من جنس الحيوان، فإنها تربيها على نبات وتمتص منها عصاراتها، فأما إذا حاربت نملا مثلها فليس ذلك فضيلة تؤخذ عنها، ولا حكمة تقلد فيها.
ولو أنكم يا معشر الإنسان قلدتم الحيوان في سائر أعماله لوجب عليكم أن تأكلوا الحشائش والحبوب ولا تخبزون ولا تطحنون.
إن شأنكم أن تأتوا بحجة على دعواكم واهية داحضة لتستروا بها عوراتكم وتواروا بها سوآتكم، من أين أتيتم بهذه القضية الفارغة يا بني الإنسان؟ فهل استعبادكم الأمم وقتلكم الأنفس وتيتيمكم الأطفال إزاحة للوباء، كما فعلت كواسر الطير وسباع البر، قضيتكم في الطبيعة غريبة، ما أكثر أوهامكم، وأقل علومكم، وأجهل عقلائكم!
يا معشر الإنسان، الحيوان يمشي على رجلين، ويغني بصوته، وأنتم اتخذتم العجلات للسير والسفر في البحر، وغنيتم بالأعواد، واستعنتم على الطرب بما حولكم من الناميات النباتية والحيوانية، فإذا سألناكم قلتم: اخترعنا وعقلنا ونحن أرقى من الحيوان. فإذا عذب بعضكم بعضا، وغشت ظلمات ليل الجشع وجه نهار الرحمة المضيء في قلوبكم، فظلمتم وقتلتم وانقلبتم آسادا ونمورا قلنا: لماذا جهلتم؟ أحسبتم أن هذه قضية طبيعية كما تفعل الوحوش الكواسر؛ السباع والآساد لحكمة مقدرة، وما حكمتكم أنتم يا أيها الإنسان؟ إن قضية القتل والاستعباد بجهلكم أحدثتموها، وبعقلكم المغرور اخترعتموها، أليس لكل حيوان رأس؟ قلت: نعم. قال: فهل رأيت يوما رأس حمار على جسم ثور، أو رأس معز على جسم أسد؟! قلت: كلا. قال: ولو أنه وضع رأس أحدهما مكان الآخر أفلا يكون الخلط والخبط في هيئة الحركات والسكنات والأمور المعاشية؟ قلت: بلى. قال: ألم يكن للغربان حكومة جمهورية؟ قلت: بلى. قال: ولكثير من الطير؟ قلت: بلى. قال: وهل شاهدت النحل، أليس له حكومة منظمة؟ قلت: بلى. قال: فالزنابير؟ قلت: بلى. قال: فالحيتان في البحر؟ قلت: بلى. قال: فكلاب الماء التي تبني قرى على شواطئ الأنهار مركبات من بيوت ذات طبقتين عليا وسفلى؟ قلت: بلى. قال: فهل رأيت أمة من هذه الأمم غادرت أمكنتها، وطغت على أخواتها من جنسها، فظلمته وقتلته أو سخرته ليجلب قوتها؟ قلت: كلا. قال: أرأيت الزنابير، أليست مؤذية لكم شريرة فاسقة فاجرة؟ قلت: بلى. قال: أغادرت أعشاشها وحاربت أخواتها؟ قلت: لم أر ذلك، ولكنها تحارب النحل، وتشرب عسله. قال: إنه من غير جنسها.
فقلت: لقد قرأت في كتاب داروين أن الأقوى يبيد الأضعف من الجنس الواحد كالخطاطيف. قال: لئن صح هذا فليس حجة لكم؛ فليس الخطاف في حاجة إلى الخطاف، وأنت تعلم أنكم مضطرون إلى الاجتماع والاتحاد في مشارق الأرض ومغاربها، وإبادة أمة أو رجل أو امرأة يحدث نقصا في مجموعكم الإنساني. قال: ألست تشعر بألم لما يصيب الأمم النائية عنك؟ قلت: بلى. قال: ألست تشعر بما يصنعه صانع أجنبي عن بلادك ودينك ولغتك؟ قلت: بلى. قال: ألست تسر لما تسمع من شجاعة الشجاع، وعفة العفيف، وفضيلة الفاضل، وعلم العليم؟ قلت: بلى. قال: ألست تنقبض لجهل الجاهل، وجبن الجبان، وفجور الفاسق، ورذيلة الناقص من أي أمة وبلدة؟ قلت: بلى. قال: إذن يلحقك من نوع الإنسان الفرح والترح والسعادة والشقاء والمنفعة والضر؟ قلت: نعم. قال: ذلك ليس في الحيوان، فلئن أباد الحيوان الحيوان فأنتم في حال أشرف من حاله، واجعل قلبك ميزان سياستكم، وشعورك مقياس عدلكم.
قلت: إذن تريد أن يكون الناس أمة واحدة، فتجمع بين القلوب والأجسام والأرواح، وقد اختلفت لغاتنا ودياناتنا وعقائدنا وممالكنا، وقد كتب علينا أن نكون في حرب ونضال أمد الدهر معذبون؟ قال: أليس الحرب للقوت والمسكن والملبس، فهل غير ذلك؟ قلت: لا. قال: إنكم تحاربون لتساووا أخس الحيوان من الدود والميكروب؛ فإنها تأكل وتعيش. ما لهذا خلقتم، وإنكم عن طريق الحق عدلتم، إنكم بهذا الحرب والضرب والعداء تعلنون الكسل والجهل، أما الكسل فإن امرأ عمل عملا فسطا عليه آخر فانتهبه فهو الكسول، تعلمون أبناءكم أن يكونوا عالة على غيرهم، تهدمون صروح الصناعات في الأمم المغلوبة، وتنيمون الغالب على فراش وثير.
Halaman tidak diketahui