فلما أن اطلعت على أقمار زحل ألفيتها ثمانية، فزاد تعجبي، فما أن نظرت أورانوس وأقماره الأربعة شاهدت ما لم يخطر على بالي، رأيت أقماره تدور على شكل عجيب، تدور من الجنوب إلى الشمال، فقمرنا الأرضي يسير حول الأرض في الاتجاه الذي فيه حركتها من المغرب إلى المشرق، فأما أقمار أورانوس فإنها تدور على زاوية قائمة، فإذا جرى في حركته من الغرب إلى الشرق دارت أقماره من الجنوب إلى الشمال، حينئذ أيقنت أن العوالم السماوية منوعة السير، كما تنوعت أشكال الأجسام الحية على سطح الأرض.
العدل والنظام
والأمر الجوهري النظام والعدل، لم أر كوكبا حاد عن خطته ولا شمسا غادرت فلكها، ولم تختل حركة الأرض اليومية ولا السنوية ولا حركة المجموعة الشمسية.
المشتري يجري حول الشمس مرة كل 12 سنة، وزحل يجري مرة كل 29 سنة، والزهرة تتم دورتها في 23 يوما، والأقمار كلها دائرة دورا منظما.
وهنالك قلت: يا الله، إن نظامك جميل، إنك لعدل، ما أجمل الكواكب! ما أبهى النجوم! وما أبدع حركاتها! لا خطأ فيها، مع شدة سرعتها، إن هذا لعدل، إن هذا لهو الميزان، فلماذا رأيت دول الأرض ظالمين؟ أرواحنا تحب هذا الجمال، إني له لمن العاشقين، فأين العدل؟ أين العدل؟ جملت النجوم، وجرت بقسط ونظام وميزان، وجملت أرواحنا ولكنها سارت على غير هدى، يا رب إن ظاهر النجوم يوافق باطنها، ظاهرها الجمال، وباطنها الحركات المنظمة، ونحن في أرضنا كلنا طلق المحيا باسم مرض أخاه، ولكن الأفئدة مملوءة حقدا ودغلا وغشا، إن الإنسان لظلوم كفار، إنه كان ظلوما جهولا، اللهم إني لا أرضى هذا الزور والبهتان، اللهم لا حياة ولا سعادة إلا بالصدق والفضيلة.
ما لي أرى أكابر الأمم وسواسهم يقولون الإنسانية وهم مجمعون على جشعهم، وكأنهم جهال، بعض أهل التدين يترنمون بما لا يعلمون، أو يعلمون بما لا يعملون، هذه بلية الإنسان، افترى عليه رؤساؤه الدينيون، وكذب رؤساؤه السياسيون.
وهنا قارنت ظاهر الإنسانية وباطنها بظاهر النجوم وباطنها، فحرت في ذلك وقلت: لأسأل صديقي الوجدان، عسى أن يشفيني بالجواب، فلما أن طفقت أسأل صديقي ابتدرني قائلا: انظر، انظر، إذا سحابات مكورة مزرقة مبيضة تجول في أنحاء الجو فأقبلت إحداهن إلينا، فامتطيناها، وقلت: باسم الله مجراها ومرساها، فلما استوينا على ظهرها تأملتها، إذا باطنها ناعم أملس لون ماء نهر النيل، حتى حسبته ماء، ثم تبين لي أنه منطاد لطيف ومركب جميل مرصع الحافات بالجواهر، والأحجار الثمينة من الزمرد والمرجان والدر، وما لا يبلغ الواصفون صفته، وهناك أحجار عجيبة بهجة باهرة للناظرين، فسارت بنا تخترق الآفاق. فقال: انظر، إذا نجم نبتون، وهو يجري بسرعة لا نظير لها حول الشمس، ثم أبصرت سيارات كثيرة ونيازك وذوات أذناب لا أحصي عددها، كلها دائرة حول الشمس.
ثم قال: ارفع رأسك وانظر، إذا هناك نجوم تسمى الثوابت لا تجري حول الشمس. فقال لي رفيقي: كم عدد النجوم التي أدركتموها بآلاتكم المقربة «التلسكوب»؟ قلت: إنها مائة مليون. قال: انظر، فنظرت إذا النجمة اليمانية وهي أضوأ من الشمس خمسين مرة وهي أبعد عنا بما يقاس مليون مرة ببعد الشمس، فالمسافة التي بين أرضنا وبين الشمس المقدرة بنحو 90 مليونا من الأميال تتضاعف مليونا مرة في بعد النجمة اليمانية، فزاد تعجبي، ورأيت نجما آخر أضوأ من الشمس 400 مرة وآخر أضوأ منها 1000 مرة، والأعجب من هذا كله نجمة «أكتروس» فهي أضوأ من الشمس 8000 مرة، وتجري في الثانية 355 ميلا، فحينئذ بهرت وغشي على عقلي، وبقيت في سكون تام لا حراك لي مما اعتراني من الدهشة والحيرة، فأيقظني صديقي الوجدان، وقال: سل ما بدا لك الآن.
يريد بذلك أن تزول حيرتي، وتذهب وحشتي، ويؤانسني. فقلت: أليس النظام واحدا؟ أليس عالم الإنسان تابعا لهذا الجمال البديع؟ فمن أين جاء له الفساد؟ وكيف يقولون ما لا يعلمون، ويبطنون ما لا يظهرون؟ هل يعم النظام والجمال هذه العوالم العالية البديعة، ويذرنا نتخبط، ويقتل بعضنا بعضا، ويطعن بعضنا بعضا، ونحن في الحياة معذبون ظالمون جاهلون، أما أنا فلا أعتد في الحياة إلا بالجمال والنظام والصدق، فأما إذا خالف الظاهر الباطن، والعمل القول، فما أسوأ الحياة! وما أجهل الكاذبين المنافقين!
أين السعادة؟ أين الحياة؟ ما أحقر أخلاق الأمم! ما أضل سياستهم! ما أجهلهم! يا بني آدم تعالوا معي، تأملوا هذه الحكمة، اعجبوا من القسط والعدل. فأجابني الصديق قائلا: إن الله عز وجل نظم هذا العالم وبث فيه خلائق وجعلكم أنتم خلائقه في الأرض، ولقد علمت مما شاهدت الآن أنها ذرة صغيرة من العوالم، بل إن مائة المليون من النجوم التي شاهدتها الليلة وعرفها علماؤكم إنما هي ذرة مما لا يتناهي من العوالم المحيطة بكم، ولا أحد يحيط علما بعددها، وإني قابلت سكان النجمة اليمانية، وسكان القطبية التي لا يصل ضوءها لكم إلا في خمسين سنة، فألفيتهم يعلمون من النجوم أضعافكم بملايين الملايين، وهم يعترفون بأنهم لا يعلمون من العوالم إلا ذرة صغيرة، ويقولون: وما أوتينا من العلم إلا قليلا.
Halaman tidak diketahui