زرت صديقا فأهداني باقة ياسمين، فآنست بهجة ونظاما، وحسنا وإتقانا، وجمالا بديعا، زهرة الياسمين ذات خمس أوراق بيض ناصعات، تقاربت أسافلها وتباعدت أعاليها، وشكلت أطرافها العليا هيئة شكل خماسي الأضلاع، منظم الأوضاع، بحيث لو قست ما بين رءوسهن للقيتها متساوية المقياس، إن فيها لجمالا، وإن عليها لبهاء، وإن فوقها لبريقا، عطرت الهواء بذكي ريحها، وسرت الجلاس والإخوان بأريج عبيرها، فما شبهتها إلا بالأرواح الإنسانية، لو أن الناس نقبوا عنها لاكتشفوا أسرارها، كما أدركوا أسرار البخار والكهرباء، وعناصر الهواء وأصول الماء.
الروح جميلة صافية مشرقة في أصلها أشبه شيء بزهرات الياسمين، أوراقها الخمسة العفة والشجاعة والعلم والعدل واحتمال الحوادث بثبات، وجمالها حبها سائر الناس، وريحها ينبث منها إلى ما حولها وعلى القريب والبعيد وسائر نوع الإنسان.
الإنسان أحق من الزهر بجماله ونضرته ونظامه، ولا دليل على اتصاف المرء بتلك الصفات إلا حب سائر الأمم والممالك شرقا وغربا وإلا فلا جمال ولا كمال.
الحكمة الثامنة: رجلان إفرنجيان
قابلت في شارع الموسكي بالقاهرة رجلين إفرنجيين، أحدهما أعمى يتكفف الناس، والآخر يحمل ورق القمار ليبيعه، فأثر ذلك المنظر في قلبي، وأشفقت عليهما، وقلت إنني أحس بعطف عليهما، إنهما من نوع الإنسان، من ذا الذي قال: شرقي وغربي وأمة وأمة، هذا العطف مركوز في الجبلة، مفطور عليه الأجنة، إنه كالأثير يغدو فيه الإنسان ويروح، وكالهواء يحيط بالإنسان، وكضوء الكواكب والشمس والقمر يحيط بالقلوب والأجسام.
من ذا الذي صرف الناس عن المحبة والإخلاص، أنا من النوع الإنساني، وذو عطف وشفقة عليهم، أفليست الأمم الرشيدة ذات عطف على أخواتها الجاهلات كما لدي، أوليست الأمة الجاهلة كهذا الإفرنجي الأعمى، أوليس الضلال عن الهدى في العلم كعمى البصر عن ضوء النهار، أفليس للأمم الرشيدة عطف كما عندي على الأمم الجاهلة، إني أراهم يدفنون هذا الوجدان في قبور أجسامهم ويعملون ضد فطرهم، وهم عن الحب معرضون.
الحكمة التاسعة: كان أوقد مصباحه ضحى
آنست حانوتا واسعا أظلم داخله، والشمس طالعة ضحى، والناس غادون ورائحون. فقلت هكذا نوع الإنسان، نظم جسمه، وأحكم تدبيره، ومنح الحواس والعقل، وسخرت له الأرض والنبات، وأطاعه الحيوان، وأبيح له البحر، وأمكنه أن يعيش خالي البال، فأخذ يتغالى في أحوال حياته، ويتمادى في سرفه حتى أظلمت سماء حياته بظلمات الظلم والعداوات والحقد والحسد والمدفع والنار، كما أظلم داخل هذا الدكان بالبناء الذي عجز ضوء الشمس أن يسطع بفنائه، ورد ذهبها الخالص أن يزور رفارفه وساحاته.
فليضئ عقله بضياء الحب والإخلاص لأخيه، كما أضيء داخل الدكان، وليدم على التهذيب والتأديب والتمرين على الحب حتى يساوي نور الحب الساطع في قلبه نور شمس السعادة المشرقة في الخليقة والمضيئة في الطبيعة الشاملة لسائر الكائنات.
الحكمة العاشرة: الفرس والعربة
Halaman tidak diketahui