Kertas-Kertas Hidupku (Bahagian Pertama)
أوراقي … حياتي (الجزء الأول)
Genre-genre
في أعماقي أدرك أنوثتي العارية الكامنة الزاهدة في الظهور، يشتد زهدها باشتداد تأججها، تتخفى عن الأعين تحت غلاف الجسد، لا يطل منها شيء إلا البريق الخاطف في العينين، وأصحو مبكرة قبل أن يصحو البيت، أتناول فطوري، فنجان الشاي الساخن جدا باللبن الحليب، قطعة من الجبن الأبيض وعسل النحل، نصف رغيف، أشرب الشاي بالنعناع في منتصف النهار أو بعد الظهر، بدأت أحب القهوة مع السهر أيام الامتحانات ، كنت أحب النوم، أستغرق فيه حتى الموت، ثم أصحو أبعث إلى الحياة من جديد.
أهوائي الصغيرة أعشقها، مثل الحملقة في السماء دون عمل أي شيء، الكون يبهرني، الكواكب، النجوم، يراودني السؤال دائما من أين جاء هذا الكون؟ متى بدأ وهل يمكن أن ينتهي؟!
خفق قلبي بالحب للمرة الثانية في حياتي داخل مدرج صغير بجوار المشرحة في كلية الطب، نهبط إليه تحت الأرض بضع درجات، يجتمع فيه أغماء الطلبة، يرتبون الإضرابات والمظاهرات الوطنية.
خريف عام 1951م كان مشحونا بالأحداث السياسية، منذ إلغاء معاهدة 1936م، في أكتوبر 1951م، لم تكف المظاهرات ضد الاحتلال البريطاني، حكومة الوفد برئاسة النحاس باشا تشجع المقاومة الشعبية، تسلح الفدائيين في القنال من وراء الستار.
سافر زميلي أحمد المنيسي مع كتائب الفدائيين ولم يعد، كنا نتبادل الحديث في معمل الكيمياء الحيوية (البيوكمستري)، رسالته الصغيرة بخط يده داخل كشكولي، كلماته المترددة الخجول: «ستكون صورتك أمامي وأنا أقاتل في سبيل الله.» أنفه من الجانب مرفوع يرسم في الجو قوسا حادا، في عينيه بريق قوي يتحدى الإنجليز، ونظرة خجولة لا ترتفع إلى عيني، كانت التقاليد صارمة تفصل بين الجنسين بسكين حاد، تحرم تبادل الكلمات أو النظرات رغم الاختلاط في الجامعة.
منذ الرسالة في الكشكول لم أر المنيسي إلا مرة واحدة قبل أن يموت، كان يحارب الإنجليز في القنال وسقط شهيدا، أقاموا له حفل تأبين، حفروا اسمه فوق حجر في مدخل كلية الطب، ثم سقط الحجر وسقط معه اسمه في التاريخ، وأسماء فدائيين آخرين ماتوا أو لم يموتوا، عادوا من الحرب يطاردهم البوليس المصري قبل الإنجليز، تحولوا بقدرة قادر من أبطال مدافعين عن الوطن إلى مجرمين في نظر الحكومة وإرهابيين في نظر الإنجليز.
أحمد حلمي كان من الفدائيين، التقيت به لأول مرة في المدرج الصغير بجوار المشرحة، كنت الطالبة الوحيدة التي تدعى إلى هذه الاجتماعات، ربما لأنني كنت أشارك في المظاهرات الوطنية وأكتب في مجلات الكلية، ورثت عن أبي أحلامه الطفولية، أكتب الشعر والأدب، أحمل السلاح، أضرب الأعداء وأحرر الوطن، لم أر نفسي في أحلامي مرتدية ثوب الزفاف أو طرحة الدخلة، لم يكن للزوج مكان في أحلامي، لا يمكن لاسم رجل أن يحذف اسمي أو يحتل جسدي.
هذه الحقيقة الهائلة تحت ضلوعي! أهي حقيقة أم وهم؟ كنت جالسة في المدرج الصغير في اجتماع تنظيم المظاهرة الكبيرة، تسربت الخفقة تحت الضلوع خافتة أول الأمر ثم تصاعدت، كتمتها بحقيبة كتبي، هذا القلب داخل صدري لم يخفق هذه الخفقة منذ الحب الأول وأنا في العاشرة من العمر، عشر سنوات مضت تحولت الطفلة إلى فتاة في العشرين، طالبة مجدة بكلية الطب تدرس التشريح والكيمياء الحيوية والفيزياء والفسيولوجيا والباثولوجي (علم الأمراض)، حفظت القرآن عن ظهر قلب وأجزاء من التوراة والإنجيل، قرأت كتبا كثيرة خارج مقررات الطب، في الفلسفة والدين والتاريخ منذ الفراعنة وقدماء المصريين حتى الاحتلال البريطاني والخديوي إسماعيل والملك فؤاد وفاروق والأحزاب السياسية، كنت أدخر أجر الترام أو الأتوبيس لأشتري كتابا جديدا أو رواية أدبية، زميلتي «سامية» أمدتني ببعض الكتب عن الماركسية، في مكتبة أبي كان هناك الجاحظ وابن رشد وابن خلدون وابن سينا والطبيب الرازي وأبو العلاء المعري، رسالة الغفران قرأتها قبل أن أقرأ الكوميديا الإلهية، ولد «دانتي» في إيطاليا عام 1265م، قرأ مثلي عن التراث المصري والمسيحي والإسلامي، لا بد أنه قرأ ابن عربي الصوفي كما قرأه أبي، ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري، ألهذا جاءت صورة العالم الآخر في الكوميديا الإلهية كما جاءت في رسالة الغفران؟ كنت أسمع أبي يقول إن «دانتي» نقل عن أبي العلاء المعري، تمط سامية شفتيها بامتعاض: معري إيه يا نوال ... ده عره خالص ... عشان كده سموه معري ... إيش جابه لواحد عظيم زي ضانطي (دانتي)، تفخم حرف الدال وتقلب التاء إلى طاء، زميلتي «بطة» تقلب الراء إلى غين، وتلعن الجميع: المعغني (المعري) ودانتي وماغكس (ماركس) تسخر منه، تقول عنه مغكس (مرقس) حبيب زميلتنا صفية منذ المدرسة الثانوية.
لم تكن واحدة من الزميلات تمشي في المظاهرات، أو تحضر الاجتماعات السياسية في المدرج الصغير، تلوي بطة شفتها السفلية الحمراء: «سياسة» إيه يا نوال دي كلام فاغغ (فارغ)، تشيح صفية بوجهها بعيدا: «كفاية أخويا أسعد في السجن والسياسة خربت بيتنا.» تزم سامية شفتيها بازدراء: الطلبة دول كلهم عملاء للأحزاب السياسية المتنافسة على الحكم، ما فيش إخلاص في البلد إلا في الحزب الشيوعي.
كلمة الشيوعية ملبدة بالغموض والإشاعات، الحزب الشيوعي غير شرعي، يعمل تحت الأرض، زعيم الشيوعيين كان طالبا في السنة النهائية، اسمه إسماعيل شلبي، نحيف الجسم يرتدي بدلة سوداء، فوق عينيه نظارة سوداء تتدلى منها سلسلة ذهبية، قصير القامة يلقي خطبة طويلة عن الفقراء من العمال والفلاحين، يتململ الزملاء في مقاعدهم، ينظرون في ساعاتهم، ينهض زعيم الإخوان المسلمين «عمران عبد الموجود» بجسمه المربع داخل البدلة الضيقة، الصديري تتدلى منه سلسلة ساعة فضية من قبر الرسول بأرض الحجاز، يقف على المنصة مائلا بجذعه ناحية اليمين، واضعا يده اليسرى في جنبه، رافعا يده اليمنى، شفتاه الممتلئتان منفرجتان، يبتسم لقوة ما في السماء، يقف صامتا في هذا الوضع بضع ثوان، كأنما عدسة سحرية في الفضاء تلتقط له صورة، ثم يستدير ببطء ليواجه الحاضرين بصوت أشبه بالرعد، يبدأ خطبته بسم الله العلي العليم ويختمها بالصلاة على خاتم الأنبياء أجمعين، يتململ الزملاء في مقاعدهم، يتسلل بعضهم من الباب الخلفي، ينهض أحدهم معترضا: «يا أخ عمران كفاية إنشا عاوزين كلام مفيد»، ينهض فؤاد محيي الدين، كان من أطباء الامتياز أو النواب في قصر العيني، أطولهم قامة شديد النحافة كالعصا الخيزران، شديد الأناقة بدلته خطوطها مستقيمة مكوية، ياقة قميصه منشاة ناصعة البياض بلا ذرة تراب ولا عرق، ربطة عنقه زهية الألوان معقودة بإتقان في نقطة الوسط بالضبط تحت ذقنه يشدها بأطراف أصابعه الطويلة الرفيعة، يشد عنقه الطويلة بحركة الديك الرومي أو الطاووس، كبرياء ربما أو اختناق، فالمدرج تحت الأرض، النوافذ كلها مغلقة، الهواء شبه معدوم، دخان السجائر يتصاعد إلى السقف، جميعهم ينفخون الدخان من أنوفهم، كأنما هذا النفخ جزء من طقوس السياسة أو الرجولة، يخبط فؤاد محيي الدين المنصة بقبضة يده القوية، لا تقل قوة عن قبضة زعيم الإخوان، صوته لا يقل جهورية عن صوته، يردد كلمات مصطفى كامل باشا: «لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا، نحن يا زملاء مصريون انتماؤنا إلى مصر مسلمين وأقباطا لا فرق، دستورنا هو القانون يصدر عن البرلمان وليس القرآن الدين لله والوطن للجميع يا إخوان!»
Halaman tidak diketahui