وإلقاء الحب الصحيح في قلب من خاطره الهوى، معناه إيحاء الفن إلى صاحب ذلك القلب يفهم به الصورة الشعرية الجميلة التي يلبس منها الحبيب جماله، فيرى كيف يجيء كل شيء من حبيبه كأنه في وزن من الأوزان، حتى لكأن هذا الشكل المحبوب إن هو إلا لحن موسيقي خلق إنسانا يجاوب بعضه بعضه ... ... وبذلك يخرج من فهم جمال الحبيب إلى فهم جمال الطبيعة، ويدرك بروحه ما حول كل شيء من الجو الخيالي البديع المحيط به إحاطة الوزن الشعري بالكلمة والنغمة الموسيقية بالصوت، ومن ذلك ينبثق في نفسه نور إلهي خالق يفيض على كل جمال في الأرض والسماء ما يجعل هذا الجمال من إدراكه أو حسه بسبب قريب، فتشتمل نفسه العاشقة على آفاق واسعة من جمال الخليقة ما دام في نفسه الحب، كما تحيط العين بالأفق فتحويه ما دام في العين البصر! •••
وتاريخ الحب عند صاحب هذه الرسائل كان كله نظرة أخذت تنمو وبقيت تنمو ... وهو حب قد كان من نمائه وجماله وطهره كأنما أزهرت به روضة من الرياض لا امرأة من النساء، وكان من مساغه وحلاوته ولذاته البريئة كأنما أثمرت به شجرة خضراء تعتصر الحلاوة في أثمارها أصابع النور فأنت لا تجد في هذه الرسائل معاني النساء متمثلة في امرأة تتصبى رجلا، ولكن معاني الحب والجمال متألهة في إنسانية تستوحي من إنسانية أو توحي لها.
وبين الدهر والدهر تخرج الأقدار على طوفان الشهوات الذي يغرق الإنسانية عاشقا روحانيا في طباعه مثل شموخ الجبل العالي وقوته وتماسكه تأوي إليه صفات الحب السامية يعصمها ويبقيها على ندوها
7
ولو في إنسان واحد كما هي على أصيلها في جمال الكون، وهذا الإنسان لا يعطي الدنيا إلا من سبيل حرمانه هو، وكأنما يحترق قلبه ليسطع بالنور والدفء على القلوب المظلمة الباردة التي لا يكون الحب فيها إلا خديعة مسولة من الطبيعة بين الجنسين حين تعمد إلى حسابها العجيب في جعل الاثنين ثلاثة.
8
وكل الصفات السامية متى نزلت إلى الدهماء والأوشاب وهذا الهمج الهامج في إنسانية الحياة، نحلوها أسماء من طباعهم لا من طباعها؛ فاسم الفضيلة عندهم غفلة، والسمو كبرياء، والصبر بلادة، والأنفة حماقة، والروحانية ضعف، والعفة خيبة، والحب اسمه الفسق ...! •••
وصاحب هذه الرسائل يرى نفسه في الحب كأنما وضع على هامش الناس، منطلقا غير مقيد، عزيزا غير ذليل؛ فهو كالسطر الذي يكتب على هامش الصفحة يستعرض ما ملأها بين أعلاها وأسفلها، وله الشرح والتعليق وما في معناهما، إلى التهكم والضحك والسخرية، ومن ثم فرسائله كذلك على هامش كل رسائل الحب: يتجافى بها عن ألفاظ الشهوات ومعانيها مما يتعمده بعض فحول الكتاب في أوربا، ولا طلاوة لرسائلهم وقصصهم بغيره؛ إذ هو يشبه أن يكون روح اللحم والدم في اللغة، ويتوخون التأثير من أقرب الطرق إليه، فيمسون شهوات القراء بالحادثة والوصف والعبارة كما يدر لعاب الجائع على ألفاظ الطعام وأوصافه ورائحته ... وإنما نحن نرى أن لحياة الحب - حتى يكون حبا صحيحا - واقعا غير الواقع في هذه الحياة، وأوهاما غير أوهامها، وحقائق غير حقائقها، فلا بد لها من كلام يلائمها في هذا المعنى الطائف بين القلب والروح يكون أشبه بكلام النية الصادقة لو نطقت في لسان، وبكتابة الضمير المخلص لو كتب في قلم.
والحب الصحيح إذا سلمت فيه دواعي الصدر،
9
Halaman tidak diketahui