«وكتب إليها مرة كتاب هوى، فتفترت في الرد عليه تريد أن يطول به الانتظار فيؤلمه، أو تريد أن تزيد به الشوق فيؤلمه، أو كأنها تطمعه بألا تطمعه ليتألم»!
فلما انتهى فيه دلالها إلى الضجر، كتب إليها هذه الرسالة يؤلمها بها، وجعلها على طريقة السجع التي كان يتراسل بها فحول الكتاب في القرن الرابع للهجرة وما بعده؛ لأنها هي تكره هذه الطريقة، وتجد لها ألما في نفسها، ولذلك مضى بها مسجوعة إلى آخرها؛ ليبالغ في إيلامها، والتهكم بها وبلفسفتها، وردت في الرسائل بكل ذلك إرادته على إرادتها، وهذه هي الرسالة»:
1
كتبت إليك من أيام يشفع لها قربك من نفسي فلا أقول إنها بعيدة وتمر قديمة، ولكن ما في النفس منها ومن آلامها يجعلها دائما جديدة وكأنها تجري بي إلى الفناء فهي تطول إلى غير حد، وتأخذ معنى اليأس الذي يمضي به الأمس فتلقي به في معنى الأمل الذي يأتي به الغد، والأيام تعد بالأرقام، ولكنك أنت جعلت هذه الأيام تعد بأنها لا تعد ...
وانتظرت رد كتابي، أو ورقة من شجرة عتابي، فما زالت تتقطع الساعة من الساعة، ويلتقي اليوم باليوم، ويذهب اللوم إلى العتاب، ويجيء العتاب إلى اللوم، وكتابك على ذلك كأنه مغمى عليه لا هو في يقظة ولا هو في نوم ...
فسبحان من علم آدم الأسماء كلها لينطق بها، وعلمك أنت من دون أبنائه وبناته السكوت ...، والسلام عليك في أزلية جفائك التي لا تنتهي. أما أنا فالسلام علي يوم ولدت ويوم أموت!
ما هذا يا سيدتي، وليس خيط عمري في إبرتك، ولا ما يتمزق من أيامي تصلحه «ماكينة الخياطة» بقدرتك، وإن كنت أنا أقل من (أنا) فلست أنت بأكثر من (أنت)، وما علمنا أنك مع القدر تحركت، ولا مع القدر سكنت!
أتحسبينك لما خفت (المحاكم)، في قتلي جعلت تقتلين بهجرك أيامي، ولما عرفت أنك من أشد سروري أردت أن أعرف كذلك أنك من أشد آلامي؟ أم أنت في نورك وظلامك تريدين أن تنقصي من الأعمار، كما ينقص منها الليل والنهار؟ أم تحسبيننا خلقنا بهذه الرقة؛ لنعرف بها كيف يتحجر قلبك ويجمد، وأنبتنا الله في مزرعة العمر؛ ليجيئنا منك صاحب المزرعة فيحصد؟ أم أنت خلقت في يد الله إرادة ماضية وخلقنا عليك اتكالا، وجئنا على الطاعة شكلا واحدا وجئت أنت من يد الله في الكبرياء أشكالا ...؟
فإن كان قلبك يا سيدتي غير القلوب فما نحن شيئا غير الناس، وإن كنت هندسة وحدها في بناء الحب فما خلقت أعمارنا في هندستك للقياس، وهبي قلبك خلق «مربعا» أفلا يسعنا «ضلع» من أضلاعه، أو «مدورا» أفلا يمسكنا «محيطه» في «نقطة» من انخفاضه أو ارتفاعه، وهبيه «مثلثا» فاجعلينا منه بقية في «الزاوية» أو «مستطيلا» فدعينا نمتد معه ولو إلى ناحية ...!
ما بال كتابنا يمضي «سؤالا» من القلب فيبقى عندك بلا «جواب» و«نبنيه» نحن على «حركة» قلوبنا فتجعلينه أنت «مبنيا على السكون» ثم «لا محل له من الإعراب» ... وما بالنا نقطع في انتظار الرد مسافة من هجرك لو طار فيها البريد؛ لانتهى بكتب الحسنات والسيئات إلى السماء، ولو طاف الأرض؛ لتقدم حتى لا يبقى في الأرض أمام، وتأخر حتى لا يبقى من الأرض وراء، فإن كنت تضنين أن توجهي إلينا من عرشك خطابا، أو تنزلي علينا من سمائك كتابا، فقد أقفل باب النبوة من قبلنا فما هذا الباب، واحتجب الوحي من زمن بعيد، فيا سيدتي ما هذا الحجاب؟
Halaman tidak diketahui