في كل بقعة فيها للوقف أملاك يدعونه «حضرة الوكيل» وتتابعه نظرات الإكبار والإعجاب أينما حل. وكانت الحياة تبدو ودودة واعدة بكل جميل حتى كان تمرد آل حمدان. وجد جبل أنه ليس شخصا واحدا كما توهم طوال عمره ولكنه شخصان. أحدهما يؤمن بالوفاء لأمه، وثانيهما يتساءل في حيرة: وآل حمدان؟!
28
انبعثت الرباب تحكي مصرع همام على يد قدري. اتجهت الأعين نحو رضوان الشاعر في انتباه يشوبه القلق. ليست الليلة كبقية الليالي، ليلة ختمت نهارا ثائرا، وظل كثيرون من آل حمدان يتساءلون: هل تمر بسلام؟ وشمل الحارة ظلام، حتى النجوم توارت وراء سحب الخريف فلم يبد من ضوء إلا ما نضحت به النوافذ المغلقة أو ما أرسلته مصابيح عربات اليد المتباعدة في أحياء الحارة. وضجت الأركان بغوغاء الغلمان المتجمعين كالفراشات حول مصابيح العربات، على حين افترشت تمر حنة خيشة أمام أحد ربوع آل حمدان وراحت تدندن:
على باب حارتنا حسن القهوجي.
وارتفع مواء قطط في نوبات متقطعة واشيا بمنافسات جنسية أو منازعات تموينية. واحتد صوت الشاعر وهو يروي قائلا: وصرخ أدهم في وجه قدري: «ماذا فعلت بأخيك؟» في تلك اللحظة ظهر زقلط في دائرة الضوء التي يرسمها فانوس القهوة على الأرض. ظهر فجأة كأنما انشق عنه الظلام. بدا عابسا متحديا كارها مكروها يتفجر الشر في عينيه وتشد قبضته على نبوته المرعب. وزحفت من محجريه نظرة ثقيلة مخيفة على القهوة والجالسين كأنها حشرة سامة، فتحجر الكلام في حلق الشاعر. وباخت نشوة ضلمة وعتريس، وانقطع عن التهامس دعبس وعلي فوانيس، وكف عن الحركة عبدون. أما حمدان فشدت يده على خرطوم النارجيلة بعصبية، وساد صمت كالموت.
وتتابعت حركات خاطفة. غادر القهوة سراعا الزبائن الذين لا ينتسبون لآل حمدان. جاء فتوات الأحياء قدرة والليثي وأبو سريع وبركات وحمودة فصنعوا جدارا وراء زقلط، وسرى الخبر في الحارة بسرعة كأنه بيت تهدم ففتحت النوافذ، وأقبل الصغار يجرون والكبار يتنازع قلوبهم الإشفاق والشماتة. وكان حمدان أول من خرق الصمت فقام في هيئة استقبالية وهو يقول: أهلا بالمعلم زقلط فتوة حارتنا، تفضلوا.
لكن زقلط تجاهله. كأنه لا يسمعه ولا يراه. وظل يطلق الطعنات من عينيه القاسيتين. ثم تساءل بصوت غليظ: من فتوة هذا الحي؟
فأجاب حمدان ولو أن السؤال لم يوجه إليه: فتوتنا قدرة.
التفت زقلط نحو قدرة متسائلا في سخرية: أنت حامي آل حمدان؟
فتقدم قدرة خطوات بجسمه القصير المدمج ووجهه المتحرش بكل شيء وقال: أنا حاميهم من الجميع إلاك يا معلم.
Halaman tidak diketahui