فقالت الأم بضراعة: ليكن التوفيق ظلك يا بني، أنت ولد طيب والعقبى للطيبين.
ومضى أدهم إلى المنظرة ترمقه العيون من السلاملك والحديقة ومن وراء النوافذ، وجلس على مقعد ناظر الوقف وبدأ عمله. وكان عمله أخطر نشاط إنساني يزاول في تلك البقعة الصحراوية ما بين المقطم شرقا والقاهرة القديمة غربا. واتخذ أدهم من الأمانة شعارا، وسجل كل مليم في الدفتر لأول مرة في تاريخ الوقف. وكان يسلم إخوته رواتبهم في أدب ينسيهم مرارة الحنق، ثم يقصد أباه بحصيلة الأموال. وسأله أبوه يوما: كيف تجد العمل يا أدهم؟
فقال أدهم بخشوع: ما دمت قد عهدت به إلي فهو أعظم ما في حياتي.
فشاعت في الوجه العظيم البشاشة؛ إذ إنه على جبروته كان يستخفه طرب الثناء. وكان أدهم يحب مجلسه، وإذا جلس إليه اختلس منه نظرات الإعجاب والحب. وكم كان يسعده أن يتابع أحاديثه وهو يروي - له ولإخوته - حكايات الزمان الأول، ومغامرات الفتوة والشباب، إذ هو ينطلق في تلك البقاع ملوحا بنبوته المخيف غازيا كل موضع تطؤه قدماه. وبعد طرد إدريس ظل عباس ورضوان وجليل على عادتهم من الاجتماع فوق سطح البيت، يأكلون ويشربون ويقامرون. أما أدهم فلم يكن يطيب له الجلوس إلا في الحديقة؛ كان عاشقا للحديقة منذ درج، وكان عاشقا للناي. ولازمته تلك العادة بعد اضطلاعه بشئون الوقف وإن لم تعد تستأثر بجل وقته. فكان إذا فرغ من عمله في الوقف افترش سجادة على حافة جدول، وأسند ظهره إلى جذع نخلة أو جميزة، أو استلقى تحت عريشة الياسمين، وراح يرنو إلى العصافير، وما أكثر العصافير! أو يتابع اليمام، وما أحلى اليمام! ثم ينفخ في الناي محاكيا الزقزقة والهديل والتغريد، وما أبدع المحاكاة! أو يمد الطرف نحو السماء خلال الغصون، وما أجمل السماء! ومر به أخوه رضوان وهو على تلك الحال فرمقه بنظرة ساخرة وقال: ما أضيع الوقت الذي تنفقه في إدارة الوقف!
فقال أدهم باسما: لولا إشفاقي من إغضاب أبي لشكوت. - فلنحمد نحن المولى على الفراغ!
فقال أدهم ببساطة: هنيئا لكم.
فسأله رضوان وهو يداري الامتعاض بالابتسام: أتود أن تعود مثلنا؟ - خير ما تمضي الحياة في الحديقة والناي!
فقال رضوان بمرارة: كان إدريس يود أن يعمل ...
فغض أدهم بصره وهو يقول: لم يكن عند إدريس وقت للعمل، ولاعتبارات أخرى غضب، أما السعادة الحقة ففي هذه الحديقة تجدها.
ولما ذهب رضوان قال أدهم لنفسه: «الحديقة، وسكانها المغردون، والماء، والسماء، ونفسي النشوى، هذه هي الحياة الحقة. كأنني أجد في البحث عن شيء. ما هذا الشيء؟ الناي أحيانا يكاد يجيب. ولكن السؤال يظل بلا جواب. لو تكلمت هذه العصفورة بلغتي لشفت قلبي باليقين. وللنجوم الزاهرة حديث كذلك. أما تحصيل الإيجار فنشاز بين الأنغام.»
Halaman tidak diketahui