فقال زكي متحسرا: ولو تركونا نعمل؛ لملأنا الحارة صحة وحبا وسلاما.
فقال علي معترضا: إني أعجب كيف نفكر في الهرب على كثرة ما لنا من أصدقاء!
فقال رفاعة باسما: إن عرق عفريتك ما زال لاصقا بجوفك، فلا تنس أن غايتنا الشفاء لا القتل، ولخير للإنسان أن يقتل من أن يقتل.
والتفت رفاعة إلى ياسمينة فجأة وقال: إنك لا تأكلين ولا تصغين!
فتقلص قلبها خوفا، بيد أنها تغلبت على انفعالها وقالت: إني أعجب لكم كيف تتحادثون في مرح كأنكم في عرس! - ستألفين البهجة عندما تتخلصين من عفريتك غدا.
ثم نظر إلى إخوانه وقال: بعضكم يخجل من المسالمة، فنحن أبناء حارة لا تحترم إلا الفتونة، ولكن الفتونة ليست مقصورة على الإرهاب، فمصارعة العفاريت أشق عشرات المرات من الاعتداء على الضعفاء أو منازلة الفتوات.
فهز علي رأسه أسفا وقال: وكان جزاء الإحسان هذا الموقف التعيس الذي وجدنا أنفسنا فيه!
فقال رفاعة بيقين: لن تنتهي المعركة كما يتوهمون، ولسنا ضعفاء كما يتصورون! إنما نقلنا المعركة من ميدان إلى ميدان، وميداننا يتطلب شجاعة أسمى وقوة أشد.
وواصلوا العشاء وهم يفكرون فيما سمعوا. وبدا لأعينهم هادئا مطمئنا قويا بقدر ما بدا جميلا وديعا. وفي فترة الصمت تجلى صوت شاعر الحي وهو يحكي قائلا: «ومرة جلس أدهم في حارة الوطاويط عند الظهر ليستريح فنعس. واستيقظ على حركة فرأى غلمانا يسرقون عربته فنهض مهددا. ورآه غلام فنبه أقرانه بصفير ودفع العربة، ليشغله بها عن مطاردتهم فاندلق الخيار على الأرض على حين تفرق الغلمان مسرعين كالجراد. وغضب أدهم غضبا شديدا حتى قذف فوه المهذب بسيل من أقذع الشتائم، ثم انكب على الأرض يجمع الخيار الذي لوث بالطين. وتضاعف غضبه دون أن يجد له متنفسا فراح يقول بتأثر وانفعال: «لماذا كان غضبك كالنار تحرق بلا رحمة؟ لماذا كانت كبرياؤك أحب إليك من لحمك ودمك؟ وكيف تنعم بالحياة الرغيدة وأنت تعلم أننا نداس بالأقدام كالحشرات؟ والعفو واللين والتسامح ما شأنها في بيتك الكبير أيها الجبار؟» وقبض على يد العربة وهم بدفعها بعيدا عن الحارة اللعينة وإذا بصوت يقول متهكما: بكم الخيار يا عم؟
رأى إدريس واقفا يبتسم ابتسامة ساخرة ...»
Halaman tidak diketahui