فغضب زقلط لتعريضها بكلمة الشرف، وصاح: أليس عندكم من مجيب غير هذه الزانية؟
فصاحت تمر حنة: الله يرحم أمك يا زقلط!
وصرخ زقلط آمرا رجاله بالهجوم على البوابة. هجم على البوابة رجال، ورمى آخرون النوافذ بالطوب حتى لا يجرؤ أحد على فتحها واستعمالها في الدفاع. وتكتل الهاجمون على البوابة وراحوا يدفعونها بمناكبهم بقوة وعزيمة. وواصلوا الدفع بشدة حتى أخذ الباب في الاهتزاز. واشتدت عزيمتهم حتى ارتج الباب وتخلخل. وتراجعوا متحفزين ثم اندفعوا نحوه بقوة وصكوه صكة واحدة فانفتح على مصراعيه. وتراءى من خلال الدهليز الطويل الممتد وراء باب الحوش جبل ورجال حمدان وقد رفع الجميع نبابيتهم. ولوح زقلط بيده في حركة فاضحة وأطلق ضحكة هازئة، ثم اندفع إلى الدهليز ورجاله خلفه.
وما كادوا يتوسطون الدهليز حتى مادت أرضه بهم بغتة وهوت بمن عليها إلى قاع حفرة عميقة. وفي سرعة مذهلة فتحت نوافذ الدور على جانبي الدهليز وانصبت المياه من الأكواز والحلل والطشوت والقرب. وتقدم رجال حمدان دون تردد ورموا الحفرة بمقاطف الطوب، ولأول مرة سمعت الحارة الصراخ يصدر عن فتواتها، ورأت الدم يتفجر من رأس زقلط والنبابيت تتخطف رءوس حمودة وبركات والليثي وأبو سريع وهم يتخبطون في المياه المطينة. ورأى الأعوان ما حل بفتواتهم فلاذوا بالفرار، وترك الفتوات لمصيرهم دون معين. واشتد انصباب الماء، والأحجار، وتهاوت النبابيت بلا رحمة. وترامت إلى الناس استغاثات ندت عن حناجر لم تألف طوال حياتها إلا السب والقذف. وكان رضوان الشاعر يهتف بأعلى صوته: لا تبقوا منهم على أحد.
واختلطت المياه المطينة بالدم، وكان حمودة أول الهالكين، وعلا صراخ الليثي وأبو سريع، وتشبثت يدا زقلط بجدار الحفرة يريد أن يثب وقد تجلى الحقد في عينيه، وراح يغالب الإعياء والخور، ويزفر أنات كالخوار، فانهالت عليه النبابيت حتى تهاوى إلى الوراء وتراخت يداه عن الجدار فسقط في الماء وفي كل راحة من راحتيه قبضة من طين! وساد الصمت الحفرة. لم تند عنها حركة ولا صوت واصطبغ سطحها بالطين والدم. ووقف رجال حمدان ينظرون وهم يلهثون. وتزاحم عند مدخل الدهليز المتجمهرون وهم يرددون في الحفرة نظرات ذاهلة. وصاح رضوان الشاعر: هذه عاقبة الظالمين.
وجرى الخبر في الحارة كالنار. وقال المتجمهرون إن جبل قد أهلك الفتوات كما أهلك الثعابين! وهتف له الجميع بأصوات كالرعد. ولفحهم الحماس فلم يبالوا بالريح الباردة. ونادوا به فتوة لحارة الجبلاوي. وطالبوا بجثث الفتوات ليمثلوا بها. وصفقت الأيدي وراح قوم يرقصون. ولم ين جبل عن التفكير لحظة. وكان كل شيء مدبرا في رأسه. فصاح بأهله: هلموا الساعة إلى بيت الناظر.
41
في الدقائق التي سبقت خروج جبل وأهله من الربع تفجرت الأنفس عن براكين حامية.
غادرت النسوة البيوت منضمات إلى الرجال. وهاجم الجميع بيوت الفتوات فاعتدت الأيدي والأرجل على أهاليهم حتى فروا بأرواحهم وهم يتحسسون أقفيتهم وخدودهم مصعدين التأوهات سافحين الدموع. أما البيوت فقد نهب كل ما فيها من أثاث وطعام ولباس، وحطم كل قابل للتحطيم من أخشابها وزجاجها حتى انقلبت خرابا يبابا. وانطلقت الجموع الغاضبة نحو بيت الناظر؛ فتكتلت أمام بوابته المغلقة وراحت تهتف وراء مناد منها بأصوات كالرعود: هاتوا الناظر ... - وإن ما جاش ...
ثم يختمون الهتاف بالتهليل الساخر الهازئ. واتجه البعض إلى البيت الكبير منادين جدهم الجبلاوي أن يخرج من عزلته؛ ليعالج ما فسد من أمورهم وأمور حارتهم. وراح آخرون يدقون بوابة الناظر بأكفهم ويدفعونها بمناكبهم محرضين المترددين المهيبين على اقتحامها.
Halaman tidak diketahui