فقال الرجل متحرشا: إني فتوتك ومن حقي أن أسألك عما أريد وعليك أن تجيب! - أجبتك بما عندي. - وماذا عاد بك؟
فقال في هدوء: ما يعود بالإنسان إلى حارته.
فقال له بصوت نم عن وعيد: لو كنت في مكانك ما عدت!
وسار فجأة بقوة، فكاد يرتطم به لولا أن تنحى جبل عن سبيله بسرعة، كاظما غيظه. وإذا بصوت بواب بيت الناظر يناديه، فالتفت جبل نحوه دهشا، ثم مشى إليه، فالتقيا أمام البيت وتصافحا بحرارة. وجعل الرجل يسأله عن أحواله، ثم أخبره بأن الهانم تود رؤيته. وكان جبل يتوقع هذه الدعوة منذ ظهوره في الحارة، كان قلبه يحدثه بأنها آتية لا ريب فيها. ومن ناحيته لم يكن بوسعه أن يزور البيت للحال التي غادره عليها، وفضلا عن ذلك، فقد قرر ألا يطلب المقابلة حتى لا يثير الشكوك حولها قبل أن تقع، سواء في نفس الناظر أم في نفوس الفتوات، ولكنه ما كاد يدخل البيت حتى جرى الخبر في الحارة جميعا. وألقى نظرة سريعة - عند مسيره إلى السلاملك - على الحديقة، على أشجار الجميز والتوت العالية، وشجيرات الأزهار والورود التي تغطي الأركان، وقد اختفى العبير التقليدي تحت قبضة الشتاء، وغشي الجو نور هادئ وديع كالأصيل كأنه يقطر من السحاب الأبيض المنتشر، وصعد السلم وهو يطرد عن قلبه بقوة أسراب الذكريات، ودخل البهو فرأى في صدره الهانم وزوجها جالسين، منتظرين.
نظر إلى أمه فتلاقت نظرتاهما، وقامت المرأة لاستقباله في تأثر شديد، فهوى على يديها يقبلهما، ولثمت جبينه في حنان، فاجتاحه في موقفه شعور بالحب والسعادة، والتفت رأسه إلى الناظر فرآه جالسا في عباءته يطالعهما بعينين باردتين، فمد له يده فقام نصف قومة ليصافحه وسرعان ما جلس. وجرت عينا هدى على جبل في دهشة ممزوجة بانزعاج، وهو يبدو بجسمه الفارع في جلباب خشن مشمر وسطه بحزام غليظ، وفي قدميه مركوب شبه بال، وعلى شعره الغزير طاقية عتماء، فتجلى في عينيها الرثاء، وتحدثت عيناها - من دون اللسان - فأبدت حزنها على مظهره وعلى ما ارتضاه لنفسه من حياة، وكأنما كانت تطالع أملا باهرا تهاوى إلى حطام. وأشارت له بالجلوس فجلس على مقعد قريب منها، وجلست هي فيما يشبه الإعياء.
وأدرك ما يدور في نفسها فحدثها بصوت قوي عن حياته في سوق المقطم، وعن مهنته، وزواجه. حدثها حديث الراضي عن تلك الحياة على رغم خشونتها، والقانع بها؛ فامتعضت لقوله وقالت: لتكن حياتك ما تكون، ولكن كيف لم تجعل من بيتي أول بيت تقصده لدى عودتك إلى الحارة؟
كاد يقول لها إنه ليس لعودته إلى الحارة من هدف إلا بيتها، ولكنه أجل ذلك؛ لأن اللحظة لم تكن مناسبة، ولأنه لم يفق بعد من تأثر اللقيا. وأجاب قائلا: كان بيتك أمنيتي، ولكني لم أجد الشجاعة لاقتحامه بعد ما كان.
وإذا بالأفندي يسأله بصوت بارد: ولماذا عدت ما دام العيش قد طاب لك في الخارج؟
فندت عن الهانم نظرة عتاب نحو زوجها الذي تجاهلها. أما جبل فقال باسما: لعلي عدت يا سيدي طامعا في لقياك!
فقالت هدى في عتاب: ولم تزرنا حتى دعوناك يا جاحد!
Halaman tidak diketahui