أوائل المؤلفين في السيرة النبوية
أوائل المؤلفين في السيرة النبوية
Penerbit
-
Nombor Edisi
-
Genre-genre
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
النبي محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه- هو صفوة الله من خلقه، بل هو صفوة الصفوة، فالأنبياء -عليهم جميعًا أفضل الصلاة والسلام- هم المصطفون الأخيار، وهو إمامهم وخاتمهم. وقد قال ﷺ: "أنا سيد ولد آدم" ١. فهو حامل الرسالة العالمية الخاتمة لجميع الرسالات، وهو اللبنة الأخيرة في صرح عقيدة التوحيد. فقد قال ﷺ: "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟! قال: فأنا اللبنة" ٢ وفي رواية أخرى: "وأنا خاتم النبيين".
ولقد وصف الله تعالى عددًا من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ببعض الصفات، فقد وصف أبا الأنبياء إبراهيم ﵇ فقال: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾ ٣. وقال عن
_________
١ مسند الإمام أحمد بن حنبل جـ١ ص٥.
٢ ابن حجر العسقلاني. فتح الباري شرح صحيح البخاري. جـ٦ ص١٥٨.
٣ مريم: ٤١.
1 / 3
إسماعيل: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا﴾ ١.
وفي سورة الأنبياء يصف إسحاق ويعقوب بالصلاح والخيرية فيقول ﷾: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ، وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ ٢. ويصف لوطًا وداود وسليمان بالعلم والحكمة؛ فيقول: ﴿وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ ٣ ويقول ﷾: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ ٤.
ويصف إسماعيل وإدريس وذا الكفل بالصبر فيقول: ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ ٥.
وهكذا نرى الله تعالى يصف بعض أنبيائه ببعض الصفات النبيلة، لكنه في ختام السورة عندما يصف محمدًا ﵊ فإنه لا يصفه بصفة جزئية وإنما يجعله كله هداية إلهية
_________
١ مريم: ٥٤.
٢ الأنبياء: ٧٢-٧٣.
٣ الأنبياء: ٧٤.
٤ الأنبياء: ٧٩.
٥ الأنبياء: ٨٥.
1 / 4
إلى العالم، ورحمة لهذه الإنسانية١. فيقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ ٢.
وفي موضع آخر يصفه بالصفة الجامعة لكل خصال الخير وجميع الفضائل الإنسانية، فيقول: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ ٣.
والخلق العظيم هو جوهر رسالته ﷺ، فهو القائل: "بعثت لأتمم حسن الأخلاق"٤ ولقد عاش رسول الله ﷺ أخلاقيًّا من طفولته إلى أن لقي ربه، فقد كان قومه ينادونه بصفة نادرة في ذلك الزمان وقبل أن يبعث؛ فقد نادوه وعرف بينهم بـ"الصادق الأمين". وعظمة الرسول محمد ﷺ ليست في أنه يمتاز بمجموعة من الأخلاق الإنسانية العالية فحسب، فهو الأمين إذا ذُكرت الأمانة، وهو الصادق إذا ذكر الصدق، وهو الوفي الكريم، الزاهد، الشجاع، المتواضع، الرحيم، البار، الحكيم، الفصيح، البليغ، العابد، كان الرسول هذا كله وكان فوق هذا، فكانت أخلاقه فوق الصعاب وفوق كل الظروف والتقلبات التي تأتي بها الأيام، لقد كان قادرًا على أن
_________
١ انظر في ذلك: البحث القيم الذي كتبه الأستاذ الدكتور عبد الحليم عويس بعنوان شخصية الرسول ﷺ في كتاب: الجزيرة العربية في عهد الرسول والخلفاء الراشدين" جـ١ ص٦٣ إلى ص٩٣. وهو مرجعنا الأساسي في تلك المقدمة.
٢ الأنبياء: ١٠٧.
٣ القلم: ٤.
٤ مسند الإمام أحمد بن حنبل حـ٢ ص ٢٨١.
1 / 5
يلتزم الموقف الأخلاقي المناسب، مهما تكن اللحظة التاريخية حرجة وحاسمة، إنه نبي يشرع بسلوكه، وينطلق من منهج واضح، وليس من رد فعل؛ تمليه أو تفرضه أية ضغوط أو ظروف١.
"لقد تحدث بعض الكتاب معددًا الخوارق التي صاحبت الدعوة المحمدية فقال: "إن من أعظم الخوارق التي لمحمد ﷺ أخلاقه، فكانت في ذاتها أمرًا خارقًا للعادة بين بني الإنسان، فهي أعلى من أخلاق الملائكة؛ لأن الملائكة حسنت أخلاقهم بمقتضى كونهم، ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ ... فمحمد بين الناس الإنسانُ الذي تتجلى فيه الإنسانية الكاملة٢.
وقد كانت صفحة حياته ﵊ كما نقلت إلينا بكل دقة وتوثيق -أخلاقية إنسانية بلغت من السمو غاية ما يستطيع إنسان أن يبلغ، وكانت لذلك أسوة حسنة لمن هداه الله أن يحاول بلوغ الكمال الإنساني من طريق العمل الصالح، وأي سمو في الحياة كهذا السمو الذي جعل حياة محمد ﷺ قبل الرسول مضرب المثل في الصدق، والكرامة، والأمانة، كما كانت بعد الرسالة كلها التضحية في سبيل الله وفي سبيل الحق الذي بعثه الله به، تضحية استهدفت حياته من جرائها للموت مرات، فلم يصده عنه أن أغراه
_________
١ د. عبد الحليم عويس المرجع السابق ص٧٣.
٢ الشيخ محمد أبو زهرة -خاتم النبيين ج١ ص٢٤٢.
1 / 6
قومه -وهو في الذروة منهم حسبًا ونسبًا- بالمال والملك وكل المغريات"١.
والغريب أن هذه الإنسانية الأخلاقية قد طبقت على هذا النحو الخارق للعادة في أروع صور البساطة واليسر، فبدت -مع سموها- وكأن البساطة وعدم التقعر أو التكلف نسيجها الذي يجمع بين خيوطها المترابطة٢. فعن عائشة ﵂ قالت: "ما لعن رسول الله ﷺ مسلمًا من لعنة تذكر، ولا انتقم لنفسه شيئًا يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات الله، ولا ضرب بيده شيئًا قط، إلا أن يضرب في سبيل الله، ولا سئل شيئًا قط فمنعه إلا أن يسأل مأثمًا، فإنه كان أبعد الناس عنه.
عن عائشة ﵂ قالت: "ما خير رسول الله ﷺ بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عنه" ٣.
"إن هذا النبي كان له -كما يقول كاتب نصراني- في مجال الأخلاق شئون وشئون، فبالرغم من مهامه الجسام وانشغالاته الكثيرة المتنوعة، وبالرغم من الغزوات والسرايا والحروب،
_________
١ محمد حسين هيكل -حياة محمد ص٥٨٣.
٢ انظر د. عبد الحليم عويس -المرجع السابق ص٧٤.
٣ صحيح البخاري ج٢ ص٢٧٣. طبعة دار إحياء التراث العربي.
1 / 7
واضطلاعه بجميع المسئوليات وحده دون سواه، فلقد وجد الوقت الكافي ليلقي على المؤمنين -بأقواله وأفعاله- دروسًا في شئون لا تمر ببال مسئول كبير في مثل مستواه وخطورته ... فذلك العظيم الذي كان يحاول تغيير التاريخ، ويعد شعبًا يفتح الدنيا من أجل الله، ذلك الرجل وجد الوقت الكافي ليلقي على الناس دروسًا في آداب المجتمع وفي أصول المجالسة وكيفية إلقاء السلام، لكأنه معلم حصر مهمته في تثقيف بضعة وعشرين تلميذًا، ولم يكن له مهمة سواها"١.
ولقد نجح محمد ﷺ نجاحًا باهرًا في كل عمل اضطلع به، من أكبر عمل -وهو تبليغ الرسالة- إلى أصغر عمل قام به٢.
فالتاريخ قد عرَّفنا برجال حملوا رسالات سماوية وأدوها بنجاح، ورجال بنوا أممًا، ورجال آخرين أسسوا دولًا، لكن التاريخ لم يحدثنا عن رجل جاء برسالة سماوية من عند الله تعالى، ثم بنى أمة ثم أسس دولة، ونجح في كل ذلك وفي حياته وقبل موته سوى النبي العربي محمد بن عبد الله ﷺ.
ولهذا جعله مايكل هارت على رأس قائمة الخالدين المائة من أبناء آدم وعلل ذلك حسب منهجه العلمي ومقاييس العظمة عنده، بأن
_________
١ المرجع السابق ص٧٤ نقلا عن الطبقات الكبرى لابن سعد ج١ ص٣٦٧.
٢ نصرى سلهب -في خطى محمد ص٣٦٦-٣٦٧.
1 / 8
محمدًا ﷺ كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى، وبرز في كلا المستويين: الديني، والدنيوي، وأنه أسس ونشر أحد أعظم الأديان في العالم، وأصبح أحد الزعماء العالميين السياسيين العظام. "وأنه بعد مرور أربعة عشر قرنًا لا زال تأثيره قويًّا ومتجددًا"١.
وبالقياس نفسه يشهد لمحمد ﷺ المؤرخ العالمي الشهير ول ديورانت فيقول: "وإذا ما حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثر في الناس قلنا: إن محمدًا كان من أعظم عظماء التاريخ، فقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والأخلاقي لشعب ألقت به في دياجير الهمجية حرارة الجو ولهيب الصحراء، وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحًا لا يدانيه فيه أي مصلح آخر في التاريخ كله. وقلَّ أن نجد إنسانًا غيره حقق كل ما كان يحلم به، وقد وصل إلى ما كان يبتغيه عن طريق الدين، ولم يكن ذلك لأنه هو نفسه كان شديد التمسك بالدين وكفى، بل لأنه لم يكن ثمة قوة غير قوة الدين، تدفع العرب في أيامه إلى سلوك ذلك الطريق الذي سلكوه، فقد لجأ إلى خيالهم وإلى مخاوفهم وآمالهم، وخاطبهم على قدر عقولهم، وكانت بلادُ العرب لما بدأ الدعوة صحراءَ جدباءَ، تسكنها قبائل من عبدة الأوثان، قليل عددها متفرقة كلمتها، وكانت عند وفاته أمة
_________
١ انظر: الخالدون مائة. تأليف مايكل هارت، ترجمة: أمين منصور ص١٣.
1 / 9
موحدة متماسكة، وقد كبح جماح التعصب والخرافات، وأقام فوق اليهودية، والمسيحية، ودين بلاده القديم، دينًا سهلًا واضحًا قويًّا، وصرحًا خلقيًّا قوامه البساطة والعزة، واستطاع في جيل واحد أن ينتصر في مائة معركة، وفي قرن واحد أن ينشئ دولة عظيمة، وأن يبقى إلى يومنا هذا قوة ذات خطر عظيم في نصف العالم"١.
بعد كل ما تقدم، وهو قليل من كثير من شخصية الرسول الخاتم محمد بن عبد الله ﵊ ليس عجبًا أن تكون تلك الشخصية محور اهتمام كل الناس: مسلمين، وغير مسلمين، على مدى تاريخه كله وأظن أن هذا الاهتمام سيستمر ما استمرت الحياة، ولن يبلغ الكتاب والمؤلفون مهما كتبوا وألفوا جوانب العظمة في شخصية الرسول ﷺ وليس هناك أبلغ -في هذا المجال- من الكلمة التي قدم بها فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي، شيخ الأزهر الأسبق، كتابَ حياة محمد للأستاذ الدكتور محمد حسين هيكل حيث قال: "منذ وجد الإنسان على الأرض، وهو مشوق إلى تعرف ما في الكون المحيط به من سنن وخصائص، وكلما أمعن في المعرفة ظهرت له عظمة الكون أكثر من ذي قبل، وظهر ضعفه وتضاءل غروره.
_________
١ د. عبد الحليم عويس المرجع السابق ص٨٩ نقلا عن قصة الحضارة ج٢ ص٤٧.
1 / 10
ونبي الإسلام -صلوات الله عليه وسلامه- شبيه بالوجود، فقد جد العلماء منذ أشرقت الأرض بنوره يلتمسون نواحي العظمة الإنسانية فيه، ويلتمسون مظاهر أسماء الله -جلت قدرته- في عقله وخلقه وعلمه، ومع أنهم استطاعوا الوصول إلى شيء من المعرفة، فقد فاتهم حتى الآن كمال المعرفة. وأمامهم جهاد طويل وبعد شاسع وطريق لا نهاية له"١.
ونَدُرَ أن نجد في التاريخ البشري رجلًا عرفت حياته -الخاصة والعامة- بكل تفاصيلها ودقائقها كما عرفت ودرست حياة النبي محمد ﵊.
"فحتى قضاؤه لوطره، واغتساله بعده، وطريقة غسله، ونومه، وطريقة قضائه لحاجته واغتساله منها، كل ذلك نقله إلينا التاريخ، بطريقة موثقة، ندر أن توثق بها نصوص في التاريخ"٢.
يقول المستشرق مونتييه في وصف وضوح حياة الرسول ﷺ: "ولقد ندر بين المصلحين من عرفت حياتهم بالتفصيل مثل محمد، وإن ما قام به من إصلاح الأخلاق، وتطهير المجتمع يمكن أن يعد به من أعظم المحسنين للإنسانية"٣.
_________
١ ص ط من تقديم الإمام الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي لكتاب حياة محمد.
٢ د. عبد الحليم عويس - المرجع السابق ص٦٧.
٣ المرجع السابق ص٦٨.
1 / 11
دوافع المسلمين للاهتمام بسيرة الرسول ﷺ
مدخل
...
دوافع المسلمين للاهتمام بسيرة الرسول ﷺ:
ليس هناك شخصية تاريخة لقيت من اهتمام الدارسين والباحثين قديمًا وحديثًا كما لقيت شخصية الرسول محمد ﷺ وليس هناك أمة اعتنت بتاريخ وحياة نبيها -بكل تفاصيله ودقائقه- كما اعتنت الأمة الإسلامية، وذلك لسببين رئيسين:
الأول: أن هذه الحياة حياة مثالية في جميع جوانبها ومستوياتها ودراستها متعة روحية وذهنية؛ لأن الإنسان يبحث دائمًا عن المثل الأعلى والقدوة الحسنة، لعل الله يهديه إلى أقوم طريق وأفضل سلوك، وليس هناك حياة وسيرة يمكن أن يتعلم منها الناس أعظم من حياة وسيرة النبي ﷺ وصدق الله تعالى إذ جعلنا؛ بل يأمرنا بالاقتداء به، فيقول: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ ١.
الثاني: أن الجانب الأعظم من حياة وسيرة الرسول ترجع للأمة ومن ثم كانت عنايتها بأحاديثه وأفعاله ومغازيه وأيامه، وتكاد تكون كل كلمة تلفظ بها الرسول، وكل حركة وكل فعل مرصودة من المسلمين، ويحفظونها عن ظهر قلب، ومدونة في صدورهم قبل أن تدون في الكتب عند بدء حركة التدوين مع نهاية القرن الأول الهجري وبداية القرن الثاني.
_________
١ الأحزاب: ٢١.
1 / 13
بداية التأليف في السيرة النبوية:
من سنن الله الكونية أن كل شيء يخضع للتدرج في النشأة والتكوين، يتساوى في ذلك الإنسان والحيوان والأفكار والعلوم والفنون، فلا شيء يخلق كاملًا، أو ينشأ ناضجًا مستوي التكوين، وإنما يمر بمراحل زمنية متتابعة، حتى يصل إلى نضجه واستوائه وكماله، وسيرة الرسول ﷺ لم تشذ عن تلك القاعدة ولم تخرج عن ذلك الناموس، فنحن نعلم أن سيرة الرسول لم تدون في حياته، أعني: أنه لم يكن من بين الكتَّاب الذين كانوا يكتبون للرسول ﷺ الوحي وغيره -وهم كثيرون- مَن تخصص في تسجيل أحداث حياته ﷺ؛ الخاصة والعامة، واستمر الحال على ذلك طوال خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة ١١-٤٠هـ ويبدو أنه كان لذلك أسباب كثيرة من أهمها أن الرجال الذين عاصروا الرسول ﷺ وهم صحابته -رضوان الله عليهم جميعًا- لم يكونوا في حاجة إلى تسجيل تلك الأحداث، فهم قد عايشوها وانفعلوا بها وتفاعلوا معها بدرجة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الرسالات والدعوات الدينية فكل مشهد منطبع في ذاكرتهم، وكل كلمة نطق بها الرسول حفظوها، وكل عمل من أعماله معروف لديهم تمام المعرفة وبكل التفاصيل، هذا
1 / 14
مع ما امتازوا به من قوة الحافظة وسرعة البديهة. لم تكن الحاجة إذن تدعو لتدوين أحداث حياة الرسول وسيرته لاستغنائهم بالمشاهدة والحفظ ولانشغالهم بالغزوات والفتوحات، غير أنه لم يكد جيل الصحابة -وهم شهود وحفاظ السيرة- يختفي حتى ظهرت الحاجة إلى تدوين وتسجيل السيرة النبوية، والتأريخ للعهد النبوي، فجيل التابعين -وهم الذين رأوا الصحابة وعاصروهم وتعلموا منهم- لم يروا بأنفسهم الأعمال الرائعة والجهاد المجيد الذي قام به الرسول ﷺ من أجل الرسالة الإسلامية وتبليغها للناس، ولكنهم سمعوا عن ذلك من الصحابة، فبهرتهم الأعمال والمواقف والأخلاق، فتاقت نفوسهم لمعرفة كل شيء بالتفصيل، ولم يفوِّتوا الفرصة، بل عضوا عليها بالنواجذ، وأخذوا يسألون الصحابة الذين صحبوا الرسول وضحوا معه، وشهدوا جميع مشاهده ومواقعه، ومن الأسئلة التي كانوا يسألونها -على سبيل المثال- متى وكيف كانت بيعة العقبة؟ متى كانت الهجرة إلى الحبشة؟ وكم عدد الذين هاجروا في الأولى والثانية؟ ومتى عادوا؟ وكيف كانت غزوة بدر؟ ومن الذين شهدوها؟ هذه الأسئلة وأمثالها كانت تلقى على الصحابة ويجيبون عنها، وأسلوب السؤال والجواب -كما هو معروف- من أهم روافد العلم، خصوصًا في مراحل النشأة والتكوين.
1 / 15
بل إن القرآن الكريم حافل باستخدام أسلوب السؤال والجواب حتى في مجال العقيدة وإثباتها، وإقامة الحجة على الكافرين الجاحدين، مثل قول الله تعالى: ﴿قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ ١.
وكان من الطبيعي أن تكون المدينة المنورة، هي أصلح بيئة للإجابة عن كل ما يتعلق بحياة الرسول وسيرته من حيث عاش معظم الصحابة الذين عايشوا أحداث الإسلام الكبرى في عهد الرسول، ونقلوها للتابعين، الذين لم يكتفوا بالتلقي والحفظ، بل بدأوا تدوين الوقائع والأحداث كما سمعوها من الذين شاهدوها، وكانت تلك لحظة البداية، بداية التأليف في السيرة النبوية. واتسعت دائرة السؤال والجواب، ولم تعد قاصرة على المدينة وحدها، بل سارع الناس في خطى الصحابة في كل مصرٍ حلوا به، مثل: البصرة والكوفة ودمشق والفسطاط ... إلخ.
ومن حسن الحظ أن من كبار التابعين الذين بدأوا التدوين في السيرة النبوية، وأصبحوا مصدرًا رئيسًا من مصادرها كانوا من أبناء كبار الصحابة الذين أخذوا العلم عن آبائهم الكرام، وهم الذين
_________
١ المؤمنون: ٨٤- ٨٧.
1 / 16
رأوا كل شيء وشاركوا بأنفسهم، بل كان من أوائل علماء السيرة من هم على صلة قريبة ووثيقة ببيت النبي ﷺ مثل: عروة بن الزبير بن العوام، فأمه أسماء بنت الصديق ﵄ وخالته أم المؤمنين عائشة ﵂ فتتلمذ عليها ونقل عنها أخبارًا كثيرة عن حياة النبي وسيرته، وقد قسم العلماء كتَّاب السيرة النبوية والمؤلفين فيها إلى طبقات، والطبقة في اصطلاح المحدثين، هم جماعة تقاربوا في السن، واجتمعوا في لقاء الشيوخ.
1 / 17
طبقات كتَّاب السيرة:
رجال الطبقة الأولى من كتَّاب المغازي والسير:
١- أبان بن عثمان:
هو ابن الخليفة الثالث عثمان بن عفان ﵁ ولد في المدينة المنورة حوالي سنة عشرين للهجرة، وتوفي فيها في خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان ١٠١- ١٠٥ على أرجح الأقوال، وقد نشأ أبان في كنف أبيه، الخليفة الراشد، أحد السابقين إلى الإسلام والمبشرين بالجنة والذي كانت تستحيي منه الملائكة كما أخبر الصادق الأمين ﷺ فهو من كبار الصحابة وفضلائهم، وبيته من أصلح وأطهر البيوت، في أصلح وأطهر بيئة على وجه الأرض في ذلك الزمان، وهي بيئة المدينة المنورة، في هذا الجو وتلك البيئة وذلك البيت -حيث الصلاح والتقى- نشأ أبان وتعلم، حتى أصبح من كبار فقهاء المدينة المعدودين والمشهورين.
ومن أعلام رواة الحديث الشريف. فقد روى عن أبيه ﵁ وغيره من كبار الصحابة. كما تتلمذ على يديه كثيرون من كبار المحدثين والفقهاء، أمثال محمد بن مسلم بن شهاب
1 / 19
الزهري، أستاذ إمام المؤلفين في السيرة النبوية وعمدتهم، محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي.
ولقد اشتهر أبان بن عثمان بالمغازي والسير -فوق شهرته في الفقه والحديث- حتى أصبح من أساتذة هذا الفن الحائزين على ثقة العلماء، فقد قال ابن سعد في الطبقات، وهو يترجم للمغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة، قال عنه: "كان ثقة قليل الحديث، إلا مغازي رسول الله ﷺ أخذها عن أبان بن عثمان"١.
فهذا الخبر على وجازته يؤكد أستاذية أبان بن عثمان في المغازي والسير، فقد كان الحديث والمغازي والسير من أحب الأشياء إلى أهل المدينة، ولعل ابتعاد أبان عن الاشتغال بالسياسة -باستثناء الفترة التي عمل فيها واليًا على المدينة من سنة ٧٥ إلى سنة ٨٣هـ -في خلافة عبد الملك بن مروان- أقول: لعل ابتعاده عن السياسة -وقد عمر طويلًا حيث نيف على الثمانين عامًا- قلته من التفرغ للعلم، درسًا تدريسًا، وإذا كانت مؤلفاته قد ضاعت -فما ضاع أو تلف من تراث الإسلام.
ولم تصل أبدًا، فقد بقيت لنا -من حسن الحظ- رواياته وآراؤه في المصادر التي وصلتنا بروايات تلاميذه.
_________
١ انظر الطبقات الكبرى لابن سعد جـ٥ ص١٧٩.
1 / 20
٢- عروة بن الزبير:
هو الرجل الثاني من رجال الطبقة الأولى من كتَّاب المغازي والسير، وأبوه الزبير بن العوام بن خويلد، أحد السابقين الأولين إلى الإسلام، وأحد المبشرين بالجنة، وهو حواري الرسول ﷺ وابن عمته صفية بنت عبد المطلب، وخديجة أم المؤمنين ﵂ عمته، أي عمة الزبير بن العوام، أما أم عروة فهي ذات النطاقين السيدة أسماء بنت أبي بكر الصديق ﵄ وخالته عائشة أم المؤمنين، وأحب أزواج النبي إليه، وقد ولد عروة في المدينة المنورة، حوالي سنة ٢٦هـ، على أرجح الأقوال، لأنه كان صغير السن عندما حدثت موقعة الجمل سنة ٣٦هـ، ولم يشهدها فقد قال هو في نفسه: "رُددت أنا وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، يوم الجمل، استصغرونا".
فالبيت الذي نشأ فيه عروة ركناه: أبوه الزبير بن العوام، حواري الرسول، وأمه ذات النطاقين، أسماء بنت الصديق، أما أستاذته الكبرى ومعلمته فهي خالته، السيدة عائشة أم المؤمنين، التي كان كثير التردد عليها، والمداومة على زيارتها والتعلم منها والحديث إليها.
1 / 21
وإذا كان عروة قد شهد -وهو صبي في العاشرة من عمره تقريبًا- الفتنة الكبرى التي حلت بالمسلمين وزلزلت كيانهم، في الشطر الثاني من خلافة عثمان بن عفان سنة ٣٠- ٣٥هـ -والتي استغرقت عهد علي بن أبي طالب كله ٣٥-٤٠هـ، فإن الله ﷾ قد تدارك الأمة الإسلامية برحمته، ووحد كلمتها في عام ٤١هـ وهو العام الذي سماه المسلمون عام الجماعة -بعد الفتنة والفرقة- حينما تنازل الحسن بن علي ﵄ عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان ﵄ إيثارًا لمصلحة الأمة، وحقنًا لدماء المسلمين، مصدقًا بذلك نبوءة جده ﵊ حيث قال عنه: "ابني هذا سيد -يقصد الحسن- ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين"١.
ولقد استفتح معاوية ﵁ عهده بالإحسان إلى أهل المدينة بصفة عامة، وإلى الصحابة وأبنائهم بصفة خاصة، وأغدق عليهم من الأموال ما أتاح لهم التفرغ للعلم والتعليم، فزخر مسجد الرسول ﷺ بأعداد هائلة من الفقهاء والمحدثين والمفسرين وأصحاب السير والمغازي، وكان عروة بن الزبير، فارسًا من فرسان هذه الحلقات وأبرز رجالها.
_________
١ صحيح البخاري جـ٤ ص٢١٦.
1 / 22
فتروي المصادر وكتب الطبقات، أنه كان يجتمع كل ليلة، بطريقة تكاد تكون منتظمة في المسجد النبوي، بمجموعة من كبار التابعين ومن رجال الطبقة الأولى منهم، كانت تضم أخاه مصعب بن الزبير، وأبا بكر بن عبد الرحمن، وعبد الملك بن مروان، وعبد الرحمن بن مسور، وإبراهيم بن عبد الرحمن، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي، ولم تكن هذه الاجتماعات سوى حلقات علمية، يدور الحديث فيها عن العلوم الإسلامية؛ من فقه وتفسير وحديث وسير ومغازٍ، وكما اشتهر عروة بن الزبير بأنه أحد فقهاء المدينة السبعة الكبار -كما هو الحال بالنسبة لأبان بن عثمان -فقد اشتهر بأنه من أكابر علماء السيرة والمغازي، وكان الناس -حتى زملاؤه في الدراسة- يتجهون إليه، ليسألوه ويتعلموا منه السيرة النبوية بصفة خاصة، لقربه من بيت النبي، ولمعرفته أكثر من غيره بما كان يدور في ذلك البيت الكريم عن طريق خالته السيدة عائشة ﵂ فعبد الملك بن مروان -الخليفة الأموي المشهور ٦٥- ٨٦هـ مع أنه كان أحد تلاميذ مدرسة المدينة المشهورين ومن فقهائها، وقد لقب بحمامة المسجد؛ لشدة ملازمته مسجد الرسول ﷺ وانكبابه على حلقات العلم، وهو من زملاء عروة وأصدقائه، إلا أنه كان كثير الرجوع إليه في كل ما يتعلق بأحداث السيرة النبوية، وذلك
1 / 23
عندما شغلته السياسة عن طلب العلم بعد أن أصبح خليفة، ويبدو أن عروة قد ألف كتبًا كثيرة في السيرة وغيرها، فهناك خبر جدير بالتنويه، يرويه ابن سعد١، عن هشام بن عروة أن أباه أَحرقَ يوم الحرة -يقصد يوم وقعة الحرة المشهورة بين ثوار المدينة وجيش الخليفة الأموي يزيد بن معاوية بن أبي سفيان سنة ٦٣هـ- عدة كتب، وقد حزن كثيرًا على فقدها فيما بعد، فهذا الخبر يدل على انتشار الكتابة والتأليف في ذلك الوقت المبكر من عهد المسلمين بالتأليف والتدوين العلمي.
وإذا كانت مؤلفات عروة بن الزبير لم تصل إلينا، فقد حفظت لنا المصادر الباقية لدينا، الكثير من المادة العلمية والروايات التي كان مصدرها عروة، ففي سيرة ابن إسحاق ومغازي الواقدي وطبقات ابن سعد وتاريخ الطبري روايات كثيرة عن أحداث سيرة الرسول ﷺ ومغازيه عن عروة بن الزبير، وقد توفي رحمه الله تعالى سنة ٩٤هـ٢.
_________
١ الطبقات الكبرى جـ٥ ص١٣٣.
٢ انظر ترجمة عروة في المصدر السابق جـ٥ ص ١٧٨- ١٨٢.
1 / 24