وتلك أمة ينفخ قادتها فيها الغرور والعجب، ويذكرونها مجد الرومان وغابر الزمان، حتى انتفخت أوداجها، وورمت أنوفها، ثم صاحوا فيها قد بطشنا بطرابلس عشرين عاما حتى دوخناها، وذللنا دانيها وقاصيها، ولكنها لا تفي بحاجتنا، ولا تسد مطامعنا.
ونظروا فإذا في إفريقية دولة واحدة مستقلة حفظ عليها استقلالها من دون أمم إفريقية. إنها دولة نصرانية، لم يستبح المغيرون أن يجعلوها كالمسلمين، ولكنها - على نصرانيتها - أمة سوداء، ضعيفة، تسكن أرضا واسعة، صاح زعيمهم: هلم إلى الحبشة، فانبرت العقول تخترع الأوهام والتعلات، والألسن تفتري الكذب، والأقلام تخط الأباطيل، وطفقوا يعيدون قصة الذئب والحمل حينا، ويصرحون بمكنون ضمائرهم حينا، وسار الشر إلى الحبشة في جيوشه ومفترياته.
ويشفق بعض الدول من هذه الغارات، ويخاف عقباها، فيستغيث الحق والعدل، وحماية الضعيف، والاقتصاص من القوي، وتتوالى نذر الحرب، وتطيف بمصر مقدماتها، وتقف مصر بين دولة محتلة، وأخرى مجاورة، تشقها الطريق بين الحبشة وإيطالية.
تهيب مصر بجيشها، فإذا جيش ضئيل، وسلاح كليل، وتدعو بنيها، فإذا نفوس أبية، وسواعد قوية، ولكنها لم تدرب للقتال، ولم تعد للنضال، ولم تشهد الزحوف، ولم تعتد التعرض للحتوف، لم تحمل السلاح، ولم تتمرس بآلات الكفاح: أنفس عزيزة، وأمة ذليلة! ويقول من أبى على الأمة أن تأخذ للأيام أهبتها، وتعد للخطوب عدتها: لا تراعوا، هأنذا أدفع عنكم! فاشكروني ولا تكفروني.
ولو ترك لنا من قبل، أن نعبئ جيوشنا، ونعد سلاحنا؛ لكان شكرنا أعظم وأجدى، وكنا في أنفسنا أعز وأقوى، وأنى يعز من يدفع عنه في عقر داره، ولا يعول عليه في حماية نفسه:
ودرى من أعزه الدفع عنه
فيهما أنه العزيز الذليل
هذا موقف الذلة والمهانة، والضعة والاستكانة، موقف من لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ولا يجلب لها خيرا ولا شرا:
رب عيش أخف منه الحمام!
ذلكم درس للحادثات مبين، وعظة للخطوب بليغة، فعلى المصريين راعيهم ورعيتهم، ودهمائهم وقادتهم أن يفهموا الدرس ويعوه، ويتدبروا الموعظة، وينتفعوا بها، ومهما تنجل عنه السحب المكفهرة، وتنكشف عنه الحادثات المنذرة؛ فليعملوا برأي واحد، ويد واحدة، ويتوسلوا بالعزم والحكمة، حتى لا يقفهم الزمان هذا الموقف مرة أخرى
Halaman tidak diketahui