ولا تزال الهجرة على بعد العهد، وعرامة الزمان، وضراوة الفتن، وضعف المسلمين وتخاذلهم وحيا يملأ النفوس آمالا، والقلوب إيمانا، والأيدي قوة، والعزائم فتوة، ولا تزال نورا في نفس كل مسلم، وحديثا في ضميره، ودعوة في أذنه، وعزة في جوانحه، وسؤددا في همته، لا تزال تدوي في الآذان والصدور، كما لا يزال الأذان الأول يدوي في أرجاء الأرض، لا يفتر ليل نهار، ولا يقر له في ساعات الزمان قرار.
1
ألا إن التاريخ الذي ولدته الهجرة لا يزال في ازدياد، والنهر الذي أجرته لا يزال في اطراد، والروح الذي نفخته لا يزال قويا، والعزم الذي شحذته لا يزال فتيا، والكتاب الذي كانت عنوانه لم تقرأ صفحاته، ولم تنفد كلماته، وإن في ضمير الدهر لأحداثا كبارا، وإن في ثنايا الغيب لأسرارا وأسرارا.
قد أضاع المسلمون الزمام، ورضوا أن يكون غيرهم الإمام، وفقد كثير من المسلمين عقولهم في هذه الفتن المحيرة، وأضلوا رشدهم في هذه الخطوب المظلمة، وبرقت أبصارهم من هذه الأشعة، وصمت آذانهم في هذه الضوضاء، ورضوا بفضلات الأقوام لعقولهم وقلوبهم وأيديهم وألسنتهم، ولكن لا يزال وحي الإسلام يسمع من وراء الحجب، ونوره ينفذ في ثنايا الظلمات، ولا تزال هذه العقول تعرف غايتها، وهذه الوجوه تقصد قبلتها، ولا تزال هذه الهمم تسمو إلى سمائها، وهذه الأرواح تطمح إلى عليائها، ولا تزال هذه الإبر تعرف قطبها، وتتجه وجهتها.
إن التاريخ الذي ولدته الهجرة لم يمت، والمجد الذي بدأته لم ينقطع، والجذوة التي أوقدتها لم تنطفئ، ولا يزال في الأرض خصب، وفي النهر ماء، وفي السحب مطر ورعد وبرق.
وإن علينا أن نتذكر فنحسن التذكر، ونعتبر فنجيد الاعتبار، ونخلق من العسر يسرا، ومن النقمة نعمة، ومن الضلال هدى، ومن الضعف قوة، مستبصرين بالوحي الذي لا يفتر، والنور الذي لا يخبو.
من كان يظن أن الأقلام جفت، والصحف طويت، فليصغ ليسمع صرير الأقلام تخط في صفحات التاريخ الإسلامي فصولا جديدة، ومن كان يحسب أن الينبوع نضب، فليمعن النظر ليرى أن الينبوع فياض، وإن حجبته الأدغال، أو تراكمت حوله الرمال، ومن أحس همود الحياة في نفسه، وخمود الهمة في صدره، وضعف الأمل في قلبه، ومرض البيان في لسانه؛ فليرجع إلى الهجرة وآثارها، والإسلام وتاريخه؛ ليغترف من هذا الينبوع، أو يقبس من هذه النار، ويقرأ في هذا الكتاب، ويستمع إلى هذا الخطاب؛ ليرجع إلى نفسه حياتها، وإلى همته وقدتها، وإلى أمله قوته، وإلى لسانه بيانه، وإلى عقله سلطانه.
فإن الإسلام لا يعرف الموت ولا الضعف ولا الذلة ولا اليأس، وإنما هو العيش في عزة وكفاح، أو الجنة تحت ظلال الرماح، وإن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب.
رسول الله في عرفات
أما اليوم فتاسع ذي الحجة، وأما السنة فالعاشرة من الهجرة، والحجيج يسيرون من منى إلى عرفات، فما بال الناس لا يسيرون على السنن المألوف، ولا يفعلون ما كانوا يفعلون؟ ما بالهم لا تفرقهم العصبيات وينحازون إلى الرايات؟ ما بال القبائل لا تلبي لآلهتها ولا تهيب بأصنامها؟ عجبا، لا تذكر الآلهة حتى اللات والعزى ومناة، ولا تسمى الأوثان حتى ود وهبل؟
Halaman tidak diketahui