169

وتطلع البلاد العربية إلى مصر، وإنزالها هذه المنزلة أجدى الوسائل إلى التقريب بينها، وتوحيد سننها في التربية والتعليم، والتأليف بين أبنائها، ولم يأل إخواننا جهدا في التودد والتقرب، فماذا يجب على مصر؟

ليست مصر أقل شعورا بإسلامها وعربيتها، ولا أضعف تقديرا للوشائج التي تحكم بهذه البلاد أواصرها، والمصالح التي توثق بها علائقها، ولكن التاريخ السياسي في العصر الأخير فرق بين هموم مصر وهموم أخواتها، وشغلها بغير الذي شغلوا به، فلما أفاقت قليلا إلى نفسها وموقفها بين الأقطار والأمم، لم يلحقها شك فيما بينها وبين أخواتها من أواصر وعرى لا تقوى الحادثات على فصمها، وكلما خف عنها عبء المصائب ازدادت شعورا وبصرا بمكانتها بين أخواتها، وما يجب عليها لهم.

إن على مصر أن ترعى القرابة، وتجزي الود بالود، وعليها أن تضطلع بالتبعات التي تحملها إياها ثقة البلاد العربية بها، وإقامتها مصر مقام الأخ الأكبر.

أسمع أحيانا بعض المتحدثين بهذا يقولون: إن على مصر أن تستغل هذه الثقة. وحاشا لله أن يكون الأمر استغلالا أو اتجارا، إنما هو أخوة ومودة، وتبعات وواجبات، وتعاون على الوقوف في معترك الحياة، وتآزر على بلوغ الغاية التي تلتقي عندها مقاصدها جميعا. يجب على مصر أن تصلح نفسها، وتكمل حضارتها، وتعمل على ما يوافق مكانتها، وتسن السنن الصالحة لنفسها وغيرها. يجب عليها أن تشارك في السراء والضراء، ولا تقف بمعزل في مصائب البلاد العربية ومسراتها، بل تشارك جهد اليد واللسان والقلب، وعليها ألا تألو جهدا في إمداد من يستمدها، وبذل ما تسأل من معونة في العلم والأدب وغيرهما، موحية إلى كل مصري يذهب إلى البلاد العربية، أنه يذهب ليؤدي واجبا، ويعاون أخا، وأن واجبه حيثما كان من هذه البلاد كواجبه في مصر، وأن مقصده الأول أن يبذل من قواه على قدر طاقته، لا يبغي جزاء ولا شكورا، وإن لم يقصر إخواننا في الجزاء والشكر.

ثم على مصر ألا تتردد في الاستفادة بما في هذه البلاد من مزايا، فلا ريب أن فيها من الآداب والأخلاق والصناعات ما يجدي علينا أن نتلقاه عنها، ونحتذيها فيه.

بالمودة والتآخي والتعاون، وشعور كل جماعة بمكانها من الجماعات الأخرى، وإدراكها ما لها وما عليها في الجماعة الكبيرة الشاملة، يتهيأ للبلاد العربية، ما بين بحر الظلمات ونهر دجلة، ما تطمح إليه من مجد وسعادة، وما يكافئ تاريخها من حضارة، حتى تؤدي نصيبها من الخير للجماعة البشرية كلها. وما أعظم ما ينتظر المجد من العرب! وما أعظم ما تؤمل الإنسانية فيهم!

من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر

يروي بعض الصوفية أن الرسول - صلوات الله عليه وسلامه - كان إذا قفل من غزاة قال: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.» ويقولون: إن الجهاد الأصغر قتال الأعداء، وخوض المعامع، وقراع المنايا، والجهاد الأكبر تقويم النفس وتطهيرها، وإعدادها للرقابة على أعمالها، والقيام بالعدل فيما بينها وبين الناس، ثم مجاهدة الأنفس الأخرى بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالرغبة والرهبة، واللين والشدة، حتى تستقيم على السنن القويم ، وتحتمل كل ما يحملها الواجب، وتأخذ كل ما يعطيها الحق، وحتى يجتمع الناس على شرع لا تفرقهم الأهواء، ولا تثور بينهم البغضاء، ثم النظر بعد هذا فيما يصلح الجماعة، ويسعدها في معايشها.

صدق هؤلاء القائلون، فحرب العدو جهاد بين، لا تقعد عنه الأنفس العزيزة، ولا تختلف فيه الكلمة، تدعو إليه العزة والكبرياء، والذود عن الأنفس والحرمات، ويصمد فيه المجاهد لعدو مرئي في معترك محدود، ولكن جهاد النفس، وإصلاح الجماعة وإسعادها خفي المسالك، غامض الجوانب، تعترك به النفس الواحدة منازع مختلفة، وتفترق بالجماعة أهواء متشاكسة، ويطول فيه المدى، وتمتحن العقول والعزائم.

فإن تكن الأمة المصرية قد مشت في عزتها إلى غايتها، أو أشرفت على الغاية، إن تكن قد بلغت بالإباء والكبرياء والدأب والصبر ما أملت، أو بعض ما أملت، إن تكن فرغت من الثورة والعداء إلى السلم والمودة، فإنما قفلت من جهادها الأصغر إلى جهادها الأكبر؛ الجهاد الذي يعنى بأحوال الأمة، ما ظهر منها وما بطن؛ ليربيها على الخير والحق، وينشئها على الخلق القويم، ويردها جماعة صالحة متآخية تجمعها المودة، ويعدل بينها الإنصاف، تلقى الخير والشر بقلوب موحدة، وعزائم مجتمعة، وآراء متناصرة.

Halaman tidak diketahui