440

وهذه النظرة الشعرية هي التي تجعل الناس تتطلع إلى الشاعر كنبي هاد يفسح أمامهم آفاق الجمال، ويعلمهم روح التسامي والإنسانية في حياتهم، ويرشدهم إلى معاني الحرية والكرامة، وكل هذا يفيض به الشعر الحديث، بحيث يجعلنا نؤمن بأن الشعر العربي في هذا العصر قد أخذ يؤدي رسالته أحسن تأدية، وليس ما يقال خلاف ذلك إلا لونا من المكابرة التقليدية أو الببغاوية الشائعة. •••

وجميل من ناجي ألا يشجع غرور الشباب والمجددين، ولكن الواقع أن شعراءنا المحدثين لا يقلون إبداعا في الغالب عن نظرائهم في الغرب، وهذا ناجي نفسه في قصيدته العصماء «الحياة في شارع» يبز تصوير الشاعر الإنجليزي الفحل والفيلسوف الاجتماعي د. ه. لورنس في قصيدته «من شباك الكلية»، ووجه الشبه بين الشاعرين عواطفهما المشبوبة وثورتهما النفسية وتأملاتهما النافذة، وهذا العقاد في غزله الفلسفي العميق ليس بأقل منزلة من شبيهه الشاعر جفري جونسون، وكذلك الصيرفي في أسلوبه الرمزي المركب الخيال، وفي أناشيده الغزلية يحملنا على أن نقرنه في مناسبات كثيرة بالشاعر لورنس هاوسمان، فمن الحق إذن ألا نبخس شعراءنا النابهين - ولو كانوا شبابا - فضلهم وآثارهم الممتازة، فالسن لا اعتبار لها أمام النبوغ، ولا جدوى من التغالي سواء أكان تفخيما أو انتقاصا.

إن التجديد في الشعر يقوم على توكيد حرية التعبير، وإبراز الشخصية، والتغلغل في صميم الكون، وهي عناصر الحياة التي ذهبت بها الصناعة في الماضي، وليس التجديد بما ينافي التضلع اللغوي واحترام الأدب الكلاسيكي، ولا بما يعني الثورة الغاشمة، فالشاعرة جرتريد ستين تعرف لغتها خير معرفة، ولكنها تعبر أسهل تعبير كأنها تنظم بلغة الأطفال وتتجلى شخصيتها ومواهبها في كل شعرها، ومثلها الشاعر جويس الذي يشعر شعورا عميقا بأن اللغة أداة وليست غاية؛ ولذلك كان في طليعة الشعراء ابتكارا للمعاني الجديدة للكلمات الشعرية، فخدم كلاهما اللغة أحسن خدمة بروح الابتكار والتجديد التي تثيرها جرأتهما وحريتهما الفنية.

وأما الشخصية الثائرة القوية - شخصية د. ه. لورنس - فقد خلقت منه شاعرا فنانا منقطع النظير في القرن العشرين، وهكذا تفعل الحرية الفنية مع الجراءة والذهنية الناضجة الأعاجيب في خلق الآثار الأدبية الخالدة. •••

إن الشعر القوي لا بد أن تدعمه عاطفة وشخصية وحرية، فهل كان التآزر بين الشعراء في «جمعية أبولو» مثلا بالذي يقضي على شيء من هذه العناصر؟ كلا ثم كلا! إن التآزر بين الشعراء حليف التجارب، وهو لون من الاطلاع والتبادل، وليس ثمة غبار على ذلك، بل هذه هي الروح الأدبية الخالصة التي تزجي النهضة المنشودة، وإنه ليسرني أن أنسبها أولا إلى نفسية ومواهب أستاذي مطران الذي جمعتني به صلة التلمذة والمحبة منذ ثلاثين عاما، وأقر صديقي الدكتور ناجي على ما ذكره إشادة بفضله في زهاء نصف قرن، حيث خلق أقوى حركة تجديدية عرفها الشعر العربي في جميع عصوره، ولئن فاته التأثير البليغ في مدرسة البارودي التي كان من أعضائها حافظ إبراهيم وحفني ناصف فقد أنجب مدرسة أخرى قوية من أعضائها مصطفى نجيب وأحمد شوقي وإسماعيل صبري، ومع ذلك لبث الزعيم المتواري لا يضيره أن يتحدث عن إمارة هذا وأستاذية ذاك.

ونحن لا يرضينا أن يعيد التاريخ نفسه فنفجع بالجديد من الدكتاتوريات الأدبية وضروب الإمارات والزعامات الشعرية، وبشتى المنافسات والحروب الشخصية العجيبة؛ ولذلك نتشبث بإنصاف المواهب الشعرية أيا كانت ونعبر بقوتها المجتمعية لا بعناصرها المتفرقة وإن احتمت هذه العناصر خلف النعوت والألقاب، لا يعنينا إقلال الشاعر أو إكثاره ولا نزعة عواطفه، وإنما يعنينا أن يكون قدوة في حرية التعبير ومثالا لنضوج الشخصية والتعلق بمثل فني، فلو لم يكن مثلا للشاعر المقل محمود أبو الوفا سوى قصيدتيه «رثاء نفسي» و«ضحية العيد» لكفاه ذلك إثباتا لشاعريته، ونحن الذين ندين لمطران بهذه المبادئ نعدها من خير الذخائر والنفائس التي تلقيناها عنه، وستتفرع عليها بحكم الطبيعة مدارس جديدة وتعاليم جديدة، ولكننا نعتقد أن مبادئه الحية التي عرضناها في هذه اللمحة السريعة ستبقى أبدا خالدة.

ضاحية المطرية

في 25 أغسطس سنة 1933

أحمد زكي أبو شادي

Halaman tidak diketahui