1 - مي الأديبة الإنسانة
2 - أدباء أحبوا مي
1 - مي الأديبة الإنسانة
2 - أدباء أحبوا مي
أطياف من حياة مي
أطياف من حياة مي
تأليف
طاهر الطناحي
أتمنى أن يأتي بعد موتي من ينصفني، ويستخرج من كتاباتي الصغيرة المتواضعة ما فيها من روح الإخلاص والصدق والحمية، والتحمس لكل شيء حسن وصالح وجميل؛ لأنه كذلك، لا رغبة في الانتفاع به.
مي
Halaman tidak diketahui
القسم الأول
مي الأديبة الإنسانة
(1) ذكريات عن مي
عرفت نابغة الأدب العربي «الآنسة مي» قبل وفاتها ببضع سنوات، وكنت وقتئذ كاتبا ناشئا، وقد وصلني بها عملي في الصحافة والأدب، وكانت وقتئذ تحرر بحوثا في «الهلال» و«المقتطف» و«الرسالة»، وكنت أعجب بنبوغها وسعة اطلاعها وما تفردت به بين لداتها من جمال النفس، وجمال الخلق، وجمال الأسلوب.
وقد حرصت في ذلك الحين على زيارتها كثيرا؛ لأتزود من أدبها زادا وفيرا، وكانت جلساتها عامرة بأسمى الأفكار وأحسن الآراء وأطرف الذكريات.
وكنت في هذه الجلسات أشهد من حلاوة الحديث، وصفاء النفس، ولطافة الحس، ورقة العاطفة، ورهافة الوجدان ما يذكرني بأميرة الأندلس «ولادة بنت المستكفي بالله» في القرن الخامس الهجري. فقد تغنت أسفار الأدب، وترنحت أعطاف الشعر الأندلسي بمجالسها الأدبية. وكانت نادرة نساء عصرها، ووحيدة لداتها في الذكاء والأدب والألمعية، وكانت ك«مي» تجالس العلماء والأدباء، وتناقشهم، وتباحثهم، وتعارضهم عن عقل ناضج وملكة أبية ورفعة في المحتد وشرف في النفس، ولم تنزع يوما إلى ريبة، ولم تنزلق إلى مأثمة، وعاشت حياتها لم تتزوج!
ولعل الآنسة «مي» كانت في عصرنا الحديث أقرب إليها في مزاياها الأدبية، وإن خالفتها في ميولها العاطفية، بل لقد فاقت «مي» «ولادة» بما كان لها من سعة في الأفق الفكري، ووفرة في الاطلاع، ومعرفة لعدد من اللغات الأجنبية. غير أن «ولادة» كانت صاحبة مدرسة في الأدب النسائي، سارت فيه على نهجها طائفة من نساء الأندلس، كمهجة القرطبية، وحمدونة بنت زياد، وغيرهما ممن نهجن نهجها في الأدب العاطفي والحب الروحي.
أما الآنسة «مي»، فقد كانت مدرسة وحدها، كانت أديبة نابغة، ومفكرة ثاقبة، وعربية محافظة، جمعت بين أدب العاطفة، وأدب النفس، وحب المحافظة على التقاليد، وكانت تؤيد حرية الفكر، وتعف عن الصغائر، لا تذكر إنسانا بسوء. وكان الزائر لمنزلها يرى في صدره إطارا جميلا يحوي شعارها في الحياة مكتوبا بخط ذهبي، وهو هذه الأبيات الأربعة للإمام الشافعي:
إذا شئت أن تحيا سليما من الأذى
وعيشك موفور، وعرضك صين
Halaman tidak diketahui
لسانك لا تذكر به عورة امرئ
فكلك عورات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معايبا
فصنها، وقل يا عين للناس أعين
وعاشر بمعروف، وسامح من اعتدى
وفارق، ولكن بالتي هي أحسن
وقد كانت تميل إلى قراءة الشعر وسماعه، وتتأثر به كل التأثر، وبخاصة الشعر العاطفي، وشعر الموعظة والحكمة، وما يكشف عن حقيقة النفس الإنسانية وتجارب الحياة والناس. •••
وقد ولدت الآنسة «مي» في بلدة الناصرة عام 1895م، ووالدها إلياس زيادة من لبنان، ووالدتها سيدة متعلمة من فلسطين. وكان إلياس قد سافر مع كسروان بلبنان إلى الناصرة ليعلم في إحدى مدارسها، فتزوج هذه السيدة، فولدت له «مريم» وابنا توفي صغيرا. أما «مريم» فقد أرسلت في نشأتها الأولى إلى مدرسة عنطورة، ثم التحقت بغيرها من معاهد تعليم البنات في لبنان قبل أن تسافر إلى مصر مع والدها ووالدتها، وكانت تدعى «ماري»، ثم أطلقت على نفسها «مي». وقد حدثتني عن نشأتها الأولى فقالت: «في مشاهد لبنان الجميلة، حيث الجنان المزدانة بمشاهد الطبيعة الضاحكة، والجبال المشرقة بجلالها على البحر المنبسط، عند قدم هاتيك الآكام الوادعة، كنت أسرح الطرف بين عشية وضحاها وأنا طفلة صغيرة بمدرسة عنطورة، فكانت توحي إلى نفسي معاني الجمال، فتفيض بها شعرا أسطره في أوقات الفراغ، وأثناء الدروس التي كنت أشغل عنها بنظم الشعر وتدوينه، حتى اجتمع لي منه مجموعة باللغة الفرنسية سميتها «أزهار الحلم» ونشرتها بإمضاء «إيزيس كوبيا» عام 1911م، بعد أن نزلت مصر مع والدي، وكانت هذه المجموعة أول كتاب صدر لي في عالم التأليف.
ولما رأى المحيطون بي أني أكتب باللغة الفرنسية دون العربية، نصحوني بدراسة اللغة العربية، ومطالعة الكتب العربية الفصحى. وكان والدي - رحمه الله - قد أصدر في هذا العهد جريدة «المحروسة»، فأخذت أقرأ بعناية كل ما يكتبه فيها كبار الكتاب، حتى تكونت لي ملكة عربية شجعتني على ترجمة رواية فرنسية بعنوان: «رجوع الموجة»، وكانت أول كتاب نشرته باللغة العربية.
وفي هذا الحين كنت أتابع دروسي باللغة الألمانية والإنجليزية والفرنسية، فترجمة رواية «هجرة الفرنسيين إلى أمريكا» بعنوان «الحب في العذاب».
Halaman tidak diketahui
ثم أخذت أتابع الترجمة والكتابة، فترجمت عن اللغة الألمانية رواية «غرام ألماني»، ونشرتها بعنوان «ابتسامات ودموع».
وفي عام 1913 زارنا المرحوم الأستاذ سليم سركيس، ودعاني لإلقاء خطاب جبران خليل جبران في حفلة تكريم خليل مطران بمناسبة الإنعام عليه بالوسام المجيدي، فقبلت هذه الدعوة. وكانت هذه أول مرة وقفت فيها فتاة عربية تتكلم باللغة العربية في حفلة رسمية تحت رعاية حاكم البلاد.
وبعد أن تلوت الخطبة ذيلتها بكلمة من عندي لتحية المحتفل به، فلقيت من الحاضرين تشجيعا عظيما.
وبعد ذلك ابتدأ يجتمع عندنا «صالون أدبي» كل يوم ثلاثاء مكث أعواما تحت رئاسة المرحوم إسماعيل صبري باشا، فاقتبست منه تهذيبا عربيا بما كان يلقى فيه أثناء الحديث باللغة العربية الفصحى.
وفي عام 1914 أرادوا أن يؤسسوا ناديا أدبيا مختلطا من الشرقيين والغربيين بدعوة من البرنسس أولفادي لبيديف، فدعيت إلى الاشتراك فيه. وكان بعض المجتمعين فيه من الوزراء السابقين، ووزراء الدول الأجنبية وقريناتهم، والعلماء، والأدباء، وكبار القوم. وفي هذا الاجتماع قال لي «أحمد لطفي السيد» أثناء حديثه معي: «لا بد لك يا آنسة من تلاوة القرآن الكريم، لكي تقتبسي من فصاحة أسلوبه وبلاغته.» فقلت له: «ليس عندي نسخة من القرآن.» قال: «أنا أهدي إليك نسخة منه.» وبعث لي به مع كتب أخرى، فابتدأت أفهم اتجاه الأسلوب العربي، وما في القرآن من روعة جذابة ساعدتني على تنسيق كتابتي.
وفي خلال الحرب العالمية الأولى التحقت بالجامعة المصرية القديمة، فكنت أدرس بها تاريخ الفلسفة العامة، وتاريخ الفلسفة العربية، وعلم الأخلاق على المستشرق الإسباني «الكونت دي جلارزا»، وتاريخ الآداب العربية على «الشيخ محمد المهدي»، وتاريخ الدول الإسلامية للشيخ محمد الخضري، إلى أن انتهت الحرب الكبرى، وقامت الحركة الوطنية المصرية.
وهنا كانت يقظتي الأدبية الصحيحة، والخلق الجديد الذي أمدتني تلك الحركة بروحه!
ولما توفيت باحثة البادية «ملك حفني ناصف» أبنتها بمقال في جريدة «المحروسة» كان الناس يقرءونه والفقيدة العزيزة محمولة على الأعناق، فنقلها الدكتور يعقوب صروف إلى «المقتطف»، وطلب مني أن أكتب ل«المقتطف» بحثا فيما كانت تنادي به الفقيدة الراحلة، فكتبت عدة مقالات جمعتها في كتاب «باحثة البادية».
وكان هذا الكتاب أول كتاب كتبته امرأة عربية باللغة العربية عن امرأة عربية، وقد صدر عام 1920.
وعلى ذلك أستطيع أن أقول إن أهم ما أثر في مجرى حياتي ككاتبة ثلاثة أشياء:
Halaman tidak diketahui
أولا: النظر إلى جمال الطبيعة. ثانيا: القرآن الكريم بفصاحته وبلاغته الرائعة. ثالثا: الحركة الوطنية التي لولاها لما بلغت هذه السرعة في التطور الفكري.»
هذا ما روته الآنسة «مي» عن نشأتها وحياتها الأدبية، وقد ذكرت خمسة كتب من أهم مؤلفاتها ومترجماتها، وقد كانت تكتب الشعر الحر أو الشعر المنثور، على أن الكاتبة الأديبة لم تزعم يوما أن هذا النثر الفني الجميل كان شعرا، ولم تدع هذه الدعوى التي يدعيها بعض أدبائنا الشبان لأنها تعلم الفرق بين الشعر والنثر.
وقد كانت «مي» ذات عاطفة مرهفة، وكان الأسى يبدو واضحا في كتاباتها الأدبية، ولعل ظروف حياتها التي بدأتها وحيدة، لا تهنأ بأخوة وأخوات يؤنسونها في هذه الحياة الدنيا إلا أخا واحدا لم يعش إلا قليلا، ثم صمت بالموت؛ هي التي أثرت في نفسها هذا التأثير، ثم مات والدها عام 1929، ولحقت به والدتها بعد بضع سنوات، وبقيت بلا أب ولا أم ولا أخ.
وذات ليلة كنت أزورها، فرأيتها جالسة وحيدة، فجرى حديث بيني وبينها عن الحياة وغايتها، وما فيها من سعادة وشقاء، فقالت: «هل تظن أن في الحياة سعادة أو أننا بالحياة سعداء؟» ثم قالت: كأني بابن الفارض يعني «السعادة» بهذه الأبيات:
صفاء ولا ماء، ولطف ولا هوى
ونور ولا نار، وروح ولا جسم
ويطرب من لم يدرها عند ذكرها
كمشتاق نعم كلما ذكرت نعم
على نفسه فليبك من ضاع عمره
وليس له فيه نصيب ولا سهم
Halaman tidak diketahui
ثم سكتت ونظرت إلى السماء، واغرورقت عيناها بالدموع! (2) عبقريتها ومأساتها
الحياة مد وجزر، وآمال وأحلام، وأفراح وأشجان، وابتسام ودموع.
هكذا هي الحياة، وتلك هي طبيعتها المعمرة المدمرة، المضحكة المبكية، السارة المحزنة، الباسمة الخادعة، الواهبة السالبة، المسالمة المحاربة، الحلوة المرة، التي تذيقنا نشوة خمرتها ثم لا تلبث أن تغصنا بمرارة كأسها وآلامها.
وكلنا يتعاطى هذه الكأس، ويذوق حلوها ومرها، ويتقلب فيها بين الهناء والشقاء، والعطاء والحرمان!
كانت الآنسة «مي» منذ هبطت مصر طفلة تعيش في ظلال أبوين بارين لم ينجبا غيرها، فأودع الله لهما في تلك الابنة الوحيدة من النجابة والنبوغ وشرف السمعة ما لم يودعه في آلاف من البنين والبنات، فكانت قرة عيونهما، وعزاءهما الوحيد، وفخرهما في الحياة.
عاش الأبوان سعيدين بتلك الابنة النابغة، مغتبطين بما أكسبت جنسها من جمال الأحدوثة، وبما قامت به لقومها من خدمات أدبية مجيدة، وبما أضافته من صفحات ممتازة إلى تاريخ الأدب العربي، وتاريخ المرأة العربية في الشرق الحديث. ثم شاءت الحياة القاسية المؤلمة المحزنة أن تمد يد الآلام إلى سعادة هذين الأبوين وأن تنقص من هناءة هذه الأسرة الكريمة، فمرض الوالد «الأستاذ إلياس زيادة» مرضا عضالا، واشتد عليه المرض، وزاد من شدته ما كان يصادفه من بعض الشركاء الذين يقاسمونه قطعة أرض في لبنان.
وانقطع الوالد أشهرا في منزله يعاني آلام هذا المرض الوبيل، وقد كان يخفف من آلامه ويعزيه في مصابه ما يراه من حنان زوجته ورعاية ابنته، وعظيم برها، وفائق فضلها على النهضة الأدبية التي رفعت شأنها وأتاحت لها فخرا لامعا بين الآداب الأخرى، ولقد كان هذا الفخر جديرا بأن يمد بغبطته وسروره في حياة الأب لولا أن للعمر نهاية وللأجل غاية، فطوى القضاء آخر صفحة من صفحاته في سنة 1929.
كان لوفاة هذا الوالد البار تأثير عظيم في نفس الآنسة «مي»، فذاقت لأول مرة مرارة الحزن البنوي العميق، وجرعت أول كأس لمأساتها الأخيرة منذ هذا المصاب الأليم، وابتدأت قصتها المؤثرة بهذا الحادث الجسيم.
وأطمعت هذه الوفاة «البعض» فيها ، فعانت شقاء هذا الطمع، وصاروا يلاحقونها في كل حين حتى ضاقت بهم، وضاقت بالدنيا وسئمت الحياة، وهي في ضيقها الشديد وسأمها الطويل تصبر ولا تشكو، وتخفي ولا تعلن.
ومرضت والدتها واشتد عليها المرض، فتفاقم الخطب، وتضاعفت الآلام ثم شاء القدر إلا أن ينزل بالكارثة الثانية، فتوفيت الأم الحنون، فتجدد حولها طمع الطامعين، فكانت تصرفهم بما عرف عنها من بر وكرم ولطف.
Halaman tidak diketahui
وكان صيف سنة 1935، فجاء إليها بعضهم يطالبها بثلاثمائة جنيه؛ لأن أرضها مرهونة، فطلبت أن تطلع على وثيقة الرهن، فأطلعوها وضيقوا عليها هذا الطلب حتى ضاقت بحالها واشتدت آلامها، وهي في شكواها وضيقها لا تصرح لأحد بما يثير في نفسها هذه الآلام. فأصيبت بمرض «الشعور بالاضطهاد»، وجسم بعضهم هذا المرض فكتب إلى أقاربها في لبنان ينبئهم بأن الآنسة «مي» أصيبت بالجنون! ويوصي بإرسالها إلى مستشفى العصفورية، فجاء أحد أقاربها فوجدها حزينة كئيبة ضيقة بالدنيا، فطلب منها هذا القريب أن تسافر معه إلى لبنان لتغير الهواء فأبت، فألح عليها كثيرا فقبلت وسافرت معه إلى بيروت، ونزلت في داره. وبعد أيام طلبت العودة إلى دارها بمصر، فأبى هذا القريب وأصر على بقائها بلبنان، فأصرت هي على العودة وهددت بالإضراب عن الطعام، فلم يأبه لهذا التهديد ولم يسمح لها بالسفر، فأضربت عن الطعام وبقيت أياما لا تأكل، فخاطب مستشفى العصفورية في نقلها إليه، وهو مستشفى إنجليزي للأمراض العقلية، فبعث المستشفى سيارة وممرضة وحملت إليه.
نزلت الآنسة «مي» مستشفى المجانين، فما أروع تلك الساعة التي سيقت فيها أديبة الشرق إلى هذا المكان، وما أشد ألمها في النفس وأفظع جرحها في القلوب!
أهكذا الدنيا؟ وهل هذا هو بلاؤها؟ وهذه عجيبتها الرائعة؟
الآنسة «مي» نابغة نساء الجيل وفخر الأدب الحديث، التي أهدت إلى العقول ثروة عقلية كبرى، وإلى النفوس جيلا كاملا من جمال النفس وسمو الشعور، تنزل بين المجانين، وتسلب من خير ما فاقت به الملايين؟
ما أقبح الحياة، وما أسوأ الدنيا، وما أظلم الأقدار!
والتفتت الآنسة «مي» حولها في مستشفى العصفورية، وتأملت حالها في هذا السجن العجيب، وقالت: أولم يجدوا لي سجنا أشرف من هذا السجن؟ ما أشد قسوة الإنسان على أخيه الإنسان!
وكأنما «مي» التي ملأت مصر وسائر بلاد الشرق أدبا وفضلا، وشهرة وفخرا، وتزاحمت النفوس على الإعجاب بها، وتغايرت الأسماع والقلوب على الإنصات إليها إذا خطبت أو تحدثت، كأنما «مي» هذه لا يعرفها إنسان ولم تمر ببال زميل من الأدباء أو أخ من الإخوان. وابتسمت «مي»، ويئست من الحياة ومن عدالة الإنسان، فأضربت عن الطعام، وصممت على الإضراب حتى تموت، وعبثا حاول الأطباء أن يصرفوها عن الإضراب، فأصروا أن يغذوها بالأنابيب من الفم والأنف، ومكثت على هذه الحال عشرة أشهر، ذاقت فيها أشد الآلام وضعفت بنيتها ونقص وزنها. وطلبت الآنسة أن تكشف عليها لجنة من كبار الأطباء، فاجتمعت وقررت أن لا شيء بها، وكتب الدكتور مارتان الطبيب الفرنسي تقريرا مطولا ينفي إصابتها بأي مرض من الأمراض، لكن إدارة المستشفى رأت أن تستمر في المستشفى مدة أخرى حتى تقوى بنيتها!
عجبت الآنسة من حظها العجيب، واتصل خبرها ببعض عائلات لبنان، وكان عيد الميلاد، فجاء أحد اللبنانيين المقيمين بفلسطين ليعيد عند أقاربه ببيروت، ويدعى «الخواجة غانم» وهو من كبار التجار، وفي الطريق مرت به السيارة بالعصفورية، فسأل السائق عما يسمعه عن الآنسة «مي» فأخبره أن إحدى قريباته وهي ممرضة في المستشفى أخبرته أن صحتها جيدة ولا شيء بها، وهي في هذا المستشفى كالمسجون البريء.
وصل «الخواجة غانم» إلى بيروت فاعتزم أن يحدث أقارب الآنسة في إخراجها، فاقبلهم وذهبوا معه لزيارتها فوجدوها جيدة الذاكرة سليمة العقل، فخرج من عندها وقد أقسم ألا يعود إلى فلسطين إلا بعد أن تخرج من هذا المستشفى.
بقي «الخواجة غانم» أربعين يوما يسعى حتى وفق في مسعاه، وخرجت الآنسة «مي» من المستشفى، ولكن لا إلى بيتها حيث تنعم بالحرية، بل إلى مستشفى للجراحة ببيروت.
Halaman tidak diketahui
سافر «الخواجة غانم» وقد ظن أن الآنسة «مي» سوف تبرح هذا المستشفى بعد أيام ريثما يستأجر لها بيت خاص، كما وعدوه بذلك، لكن لأمر ما لم ينفذ هذا الوعد، وبقيت في مستشفى الجراحة عشرة أشهر أخرى.
احتجت الآنسة «مي»، وأضربت عن الطعام والكلام، أضربت عن الطعام لأنها لا تريد أن تذوق طعام هذه الحياة المرة الملوثة بالآلام، وأضربت عن الكلام لأنها أسفت لعقوق الإنسان. وذات يوم زارها بالمستشفى الأستاذ فلكس فارس، فكان أول شخص رأته من أصدقائها بعد عامين لم تر فيهما صديقا، ولم تمسك فيهما قلما، ولم تقرأ كتابا، ثم زارها الأستاذ أمين الريحاني، وكان قد جاء من أمريكا.
فعجب لحالها، وذاع وقتئذ بين جمهور الأدباء في لبنان أن «مي» مسجونة، فانبرت الأقلام تدافع عن قضية «مي»، وتتساءل: لماذا تسجن هذا السجن العجيب؟ وذهبت طائفة من الأدباء وأبلغوا النيابة، فانتقل النائب العمومي إلى المستشفى وقابلها، وبعد 48 ساعة من مقابلتها جاء إليها مدير البوليس ومعه ستة من الضباط المسلحين، واثنان من المساعدين، وأخرجها من المستشفى في موكب انتظم فيه عدد كبير من سيارات الأصدقاء والمعجبين.
ووصلت الآنسة «مي» إلى المنزل الذي أعد لها، وقدم لها الغذاء، فتناولته بيدها لأول مرة، وأمسكت بالشوكة والسكين بعد عامين كاملين لم تتناول بيدها طعاما ولم تمسك بها شوكة وسكينا.
وعادت إليها حريتها، واطمأنت في مسكنها برأس بيروت، وسافرت إلى الفريكة فقضت بها بضعة أسابيع. وألقت في ذلك الحين خمس محاضرات، ورسمت بريشتها خمسين صورة.
ومرت هذه السنوات الثلاث الحافلة بآلامها وأشجانها، المملوءة بتجاربها الشاقة، وكأنما الأقدار قد ادخرت هذه الأحداث لهذه النفس الأبية لتطلعها على جانب غريب من جوانب الحياة، وتكشف لها عن عجائب الإنسان ما لا يعرفه عن نفسه الإنسان.
وكنت قد عرفتها سنة 1929، وأنا وقتئذ كاتب ناشئ، فأخذت أتردد على بيتها، وأفسحت لي في مجلسها منذ ذلك الحين إلى وفاتها، وكنت جالسا يوما معها فقلت لها: أود أن أعرف ما هي أمنيتك الكبرى في الحياة؟
فقالت: وهل يمكن أن تحوي الحياة أمنية واحدة؟ إن الأماني تتغير مع الوقت، وكل أمنية هي العظيمة، بل هي الواحدة العظمى عندما تقطن جوارحنا وتستولي على كياننا، وهل تصدق أن الإنسان يبوح للناس بأعظم أمانيه؟
قد يبوح ببعضها في هذه أو تلك، ولكن الأمنية الكبرى تظل سرا مكتوما بينه وبين نفسه، ولو فقد كل شيء آخر لبقيت تلك الأمنية رأس ماله الخاص الملاصق لأخفى ما يخفى في قدس أسراره، وإذا أبيت إلا أن أبوح بأمنية ما، فهي أن تظل الأماني متجددة في نفسي ما زلت حية، وأن أموت يوم أصبح غير قادرة على التمني! •••
وذات مساء من أمسية الآحاد جلست إليها، فجاء حديث شقاء الحياة وسعادتها، فقلت لها: وما هي السعادة في رأي الآنسة؟
Halaman tidak diketahui
فقالت، بعد فترة قصيرة داعبت فيها ريشتها التي كانت تكتب بها دائما وتؤثرها على القلم: هي كما قال ابن الفارض:
صفاء ولا ماء، ولطف ولا هوى
ونور ولا نار، وروح ولا جسم
ويطرب من لم يدرها عند ذكرها
كمشتاق نعم كلما ذكرت نعم
على نفسه فليبك من ضاع عمره
وليس له فيه نصيب ولا سهم
ثم نظرت إلى السماء واغرورقت عيناها بالدموع، وأردت أن أنتقل بها إلى نوع آخر من الحديث، حتى لا تشعر بما كانت تشعر به من سوء الحظ وشقاء النفس ولوعة القلب، فأشرت بأصبعي إلى لوحة معلقة في مكتبها مكتوبة عليها أبيات بالحبر الذهبي بخط الفنان نجيب هواويني، فقالت: «هذه الأبيات للإمام الشافعي، وهي شعاري في الحياة؛ ولذلك احتفظت بها على هذه الصورة.» وقامت وقمت معها، ثم قرأتها بصوت رقيق مؤثر، وهي:
إذا شئت أن تحيا سليما من الأذى
وحظك موفور، وعرضك صين
Halaman tidak diketahui
لسانك لا تذكر به عورة امرئ
فكلك عورات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معايبا
فصنها، وقل يا عين للناس أعين
وعاشر بمعروف، وسامح من اعتدى
وفارق، ولكن بالتي هي أحسن
ثم جلست وقالت: إنني أطرب من الشعر الذي يرسم للناس طريق السعادة، ويرشدهم إلى مكارم الأخلاق. ولعل الأدب سمي أدبا لأنه يهذب الروح ويؤدب النفس ويوجههما إلى اعتناق الآداب الفاضلة؛ ولهذا دعي الأديب أديبا. وأنا أعتقد أن الأديب الذي يعمل بأدبه كالعالم الذي يعمل بعلمه، والأديب الذي لا يعمل بأدبه كالعالم الذي لا يعمل بعلمه، فهو موهوب ولكنه مسلوب. •••
وكانت - رحمها الله - تتهم الجنس الخشن بإثارة المنازعات وقيام الحروب، وقالت لي مرة في أحد مجالسها: «إنني أنظر بعين الأسى إلى الأزمة العالمية الحاضرة، وعندي فكرة لإصلاح العالم لو تحققت لزالت الحروب.» ثم ابتسمت، وقالت: «هذه الفكرة هي أن تقوم في كل دولة «حكومة من الجنس اللطيف» تتألف من أرقى السيدات علما وأدبا وخبرة بالشئون السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ فإنكم معشر الرجال جربتم كل أنظمة الحكم فلم تفلحوا، بل آثرتم المنازعات وأشقيتهم الشعوب بالحروب، على الرغم من أنكم أبدعتم في كل علم وفن، وبرعتم في عقد المعاهدات، وتدوين الشروط التي تقيد حرية الأمم، ونبغتم في إقامة الحصون وحشد الجيوش واختراع أسلحة القتال، ولكنكم فشلتم في الوصول إلى أحسن طريق للتفاهم. نعم فشلتم يا معشر الرجال، وجربتم النظام بعد الآخر فلم تجلبوا للأمم غير الشقاء، فهل تسمحون أن تجربوا الحكومات النسائية، فإنني أراها أقرب إلى تحقيق السلام، وأحرص على حقن الدماء.»
وقبل مرضها الأخير بقليل كنت أزورها ذات ليلة، فلمحت في وجهها شيئا من التفكير الحزين، وفي حديثها رنين الاكتئاب والجزع، ثم سألتني: «هل تعرف تفسير الأحلام؟» قلت: «ولماذا؟ هل رأيت حلما؟» قالت: «إني رأيت حلما مؤلما، وقد نهضت من نومي حزينة خائفة.» فقلت: «وما هو هذا الحلم؟» قالت: «رأيت ليلة أمس سيدة مقبلة علي ملتحفة بالسواد، فلم أتبين من هي، حتى إذا اقتربت مني صرخت قائلة: «أمي!» فبكت. ثم أقبلت نحوي تضمني إلى صدرها وتبكي، فبكيت لبكائها، وقلت: «ما لك يا أمي؟» فأجابت: «آه يا عزيزتي مي!» فقلت: «هل سأموت يا أمي؟» فلم تجبني، واستيقظت من نومي فازعة من هذه الرؤيا، فهي أول مرة أرى فيها والدتي بعد موتها، وقد شغلت بها حتى الآن بل تشاءمت، واعتقدت إما أني سأموت قريبا، أو أن يصيبني مرض شديد.»
قصت «مي» هذه الرؤيا، وتقاطرت الدموع من عينيها، ثم استجابت لما عرف عنها من شجاعة وتجمل، وقالت: «وهل عهدتني من الجبناء؟ إني لا أخاف الموت ولا أخشاه . إن وراء الموت وجودا غير ملموس يدعى السعادة، وإني لأشعر باحتياج محرق إلى التعرف إليها والتمتع بها.»
Halaman tidak diketahui
فقلت لها: «مثلك من أعطى روحا عاليا، وأدبا خالدا لن يموت. لكني أشفق من أن تسيطر عليك الأوهام!» قالت: «إنني لا أخدع بالأوهام، غير أني لا آمن صروف الأيام، فهل تسمح أن تبحث لي عن تأويل رؤياي؟»
فأخذت أطمئنها، ولكنها ألحت أن أستشير خبيرا بتفسير الأحلام، فوعدتها وذهبت أفكر فيما عسى أن أعود به إليها في الأسبوع التالي، وكنت أزورها كل أسبوع مرة، ثم اخترعت لها تأويلا طريفا، فلم يخف على ذكائها أنني أصانعها لأدخل على نفسها التفاؤل والاطمئنان.
انقطعت عنها لسفر نحو ثلاثة أسابيع، ثم عدت، فعلمت أن «مي» مريضة في مستشفى المعادي، وأنها قبل ذلك أغلقت الباب عليها عدة أيام حتى ظن السكان أنها أصيبت بمكروه فكسروا الباب، فوجدوها في سريرها شاردة الفكر، غائبة الوعي، صامتة، فجيء لها بطبيب، وأجريت لها الإسعافات، ثم نقلت إلى المستشفى. استفاقت «مي»، وطمأنها الطبيب مؤكدا أن القلب سليم، ولكن كانت تنتابها في فترات غيبوبة، ثم تفيق منها.
وفي منتصف ليل السبت في الثامن عشر من أكتوبر سنة 1941 بدأت «مي» تشعر بضيق الأنفاس، وأخذت نبضات قلبها تسرع في الخفقان، فجعلت تصعد تنهدات أشبه بتنهدات الطفل وهو في حلم جميل.
سألتها الراهبة الممرضة عما تشعر، فلم تقو «مي» على الكلام، فرفعت يدها إلى صدرها، وأشارت ناحية القلب أن «هذا» أن «هنا» ... انقطع الأمل ولم يعد للأمصال من قوة، قد حم القضاء ولم يعد للطبيب البشري من حيلة، وجاء دور الطبيب الروحاني، نادت الراهبة الكاهن فدخل على «مي» فوجد نفسا مستسلمة إلى القضاء وحكم رب الحياة والموت، وفي الساعة العاشرة وخمس دقائق من صباح نهار الأحد، التاسع عشر من هذا شهر خفق قلب «مي» الخفقة الأخيرة لشمس الحياة.
كانت «مي» في غفوتها الأخيرة أشبه بأن تكون في حلم جميل، بسمة الأطفال على شفتيها وإغماضة رقيقة في جفنيها، وعلى رأسها إكليل من الورود والأزهار، كأنها كانت في غفوة التأمل والتفكير.
سبحانك يا رب السماء والأرض، جعلت في الحياة جمالا وجعلت للموت جمالا، وخيل إلي أن «مي» في تلك الغفوة الراضية تردد شفتاها قولها: «ثم أوحي إلي بأن هناك وجودا غير ملموس يدعى السعادة، وشعرت باحتياج محرق إلى التعرف إليها، والتمتع بتلك السعادة الأبدية!» (3) مي ملهمة الأدباء
كانت المرأة - وما تزال - وحي الأدباء والشعراء والفنانين، فإذا كانت جميلة جذابة، أو مليحة فنانة، أو أديبة نابغة، أثارت ما كمن في النفوس والألباب من شعور ووجدان، ودفعت بوحيها وإيحائها نهضة الفنون خطوات إلى الأمام؛ لأن مصدر الإبداع هو شعور الفنان ووجدانه، ومبلغ تأثره بالحياة وما فيها من جمال حي تمثله المرأة في شخصها إن كانت من ذوات الجمال المنظور، أو في نفسها، إن كانت من ذوات الجمال الروحي، والنفس العالية، والعقل الناضج، والملكة النابغة.
وكذلك كانت فقيدة الأدب العربي الآنسة «مي»، فهي الأديبة النابغة ذات الجمال الروحي، والنفس السامية، والذكاء اللامع، والفكر الممتاز، والاطلاع الوافر، والحديث الساحر مع ملاحة تأسر القلوب، ونبوغ نسائي ينافس نبوغ بعض الرجال في الإنتاج الأدبي والفكري الذي يفخر به تاريخ الأدب وتاريخ الفكر في العصر الحديث.
وقد دونت في بعض أعداد مجلة «الهلال» طائفة من الذكريات والأحداث الأدبية والرسائل التي جرت بينها وبين أصدقائها الأدباء، فقد أتيح لي أن أتعرف إليها قبل وفاتها بسنوات، وأفسحت لي - رحمها الله - في زيارتها مساء كل أحد من أيام الأسبوع، كنا نقضيه معا في الحديث الأدبي، أو النقاش الاجتماعي، أو الذكريات اللطيفة، ولقد كنت أحرص الحرص كله على لقاء هذه الأديبة النابغة في ذلك المساء؛ لأنهل من حديثها العذب، وأقتبس من علمها الوفير، وأقضي في جوارها الروحي البديع وقتا سعيدا، لا زلت أعتبره أسعد أوقات حياتي.
Halaman tidak diketahui
صورة وبيت
ولقد طالما كان الحديث بيننا يعطف على ذكرى أصدقائها القدماء من كبار الأدباء الذين كانوا يترددون على صالونها الأدبي الذي كانت تعقده يوم الثلاثاء من كل أسبوع فيما بين أوائل الحرب العالمية الأولى وأواخر سنة 1926، وكان يؤمه طائفة من أقطاب الفكر والأدب في الشرق، كالأستاذ أحمد لطفي السيد، والشاعر إسماعيل صبري، والدكتور شبلي شميل، وخليل مطران، وأنطون الجميل، وداود بركات، ومصطفى صادق الرافعي، وولي الدين يكن، وأضرابهم، وذات مساء لحظت على مكتبها صورة رشقتها أمامها، فسألتها قبل أن أتبينها: «لمن تكون هذه الصورة؟» فأمسكتها بيدها وأطلعتني عليها، فإذا هي للشاعر المرحوم ولي الدين يكن أهداها إليها، وقد كتب تحتها بخطه هذا البيت:
كل شيء يا «مي» عندك غال
غير أني وحدي لديك رخيص
وقد حدثتني عنه أنه كان معجبا بها، مشغوفا بحبها، وكثيرا ما كان ينظم شعرا فيها، سجل بعضه في ديوانه المطبوع ولم يسجل الآخر. وقد كانت على الرغم من أنها لم تبادله حبا بحب فإنها كانت تعطف على نفسه الرقيقة وشعوره المرهف، وكانت تفسح له في زيارتها حتى وهو مريض في أواخر حياته بمرض خطير!
فقلت لها: إن هذا البيت يدل على لوعة وأسى، وشعور صادق، وقلب واله، غير أن روي «الصاد» روي نادر ثقيل.
فما كدت أنتهي من هذه العبارة حتى لمعت عيناها الذكيتان، وأمسكت ريشتها في رقة وهي تهز رأسها وتعطف عنقها كعادتها في الحديث، وناولتني إياها في ابتسام ماكر وتحد ظريف، وقالت: «إذا كنت تنتقد روي هذا البيت، فإني أطلب منك أن تشطره الآن قبل أن تقوم من مكانك، ولن أسمح لك بالانصراف المباح، ولو جلست هنا إلى الصباح، حتى تجعل الشطر شطرين، والبيت بيتين»!
فأردت التخلص والاعتذار حتى يذهب الليل ويأتي النهار، ولكنها أصرت، وكان في إصرارها لطف وخفة وجمال، فأثارت وجداني، وحركت شعوري، فما وسعني إلا أن أتناول منها القلم، وبعد دقائق ناولتها هذا التشطير: «كل شيء يا مي عندك غال»
يتمناه في الحياة الحريص
قد غلا في حماك كل أديب «غير أني وحدي لديك رخيص»
Halaman tidak diketahui
فلما قرأته انبسطت أساريرها، وطربت، وكانت تطرب للشعر وتحبه!
سؤال وجواب
وذات مساء أحد من تلك الآحاد، زرتها كعادتي، فبعد حديث طريف أخرجت من مكتبها ورقة مطوية نشرتها أمامي، ثم قالت: «لقد أعددت لك الليلة امتحانا ثانيا»!
فقلت لها: «أولم يكف امتحان الأسبوع الماضي؟» قالت: «هذا بيت لشاعر قديم يسأل فيه سؤالا، فعليك أن تجيب عليه شعرا.» وهو:
ماذا تقول إذا أتتك مليحة
كحلاء في يدها كعين الديك
1
فقلت لها: «هذا سؤال عسير، يحتاج إلى تفكير.» ثم جئتها في الأسبوع التالي بهذا الجواب:
أصبو لمبسمها وطيب عناقها
وأقول هل موتي جوى يرضيك
Halaman tidak diketahui
وأجيبها لو ناولتني كأسها
لا خمر غير سلافة من فيك
فضحكت في جمال وقالت: «لعلك من العشاق المتيمين.» قلت لها: «إنني متيم بنبوغك.» قالت: «فاحتج على ذلك!» قلت: «أنت التي أثرت شعوري، وأفشيت سري.» فابتسمت في لطف وأدب، وبعد انتهاء المجلس انصرفت، ثم كان صباح اليوم التالي، فبعثت إليها بهذين البيتين:
أفشى لها الشعر ما في القلب من كمد
قالت «فاحتج» قلت الله في كبدي
الله يا «مي» في نفس معذبة
تشكو إليك، ولا تشكو إلى أحد
مي لم تنظم شعرا
كانت «مي» تطرب للشعر دائما وتحبه، وتحفظ القليل منها، ولكنها تقرأ منه الكثير، وكان أسلوبها شعريا وإن لم يكن منظوما، وكانت تتمنى لو استطاعت أن تنظم الأبيات أو القصيد، ولكن ملكة الكتابة عندها طغت على ملكة النظم، فلم تنظم شعرا، بل لم تنظم بيتا كاملا. وقد حدثتني في معرض الحديث عن ذلك فقالت إنها لم تنظم في حياتها إلا شطرا واحدا حين اقترح عليها والدها أن تخمس البيت الأول من هذين البيتين:
أرى آثارهم فأذوب شوقا
Halaman tidak diketahui
وأسكب في معاهدهم دموعي
وأسال من بفرقتهم بلاني
يمن علي يوما بالرجوع
قالت «مي»: فلم أستطع إلا أن أقول هذا الشطر الأعرج:
عرفتهمو فأضحى القلب رقا ...
ولهذا أؤكد أنه ليس صحيحا ما روي أنها بعثت إلى إسماعيل صبري بيتين، فأجابها عليهما بثلاثة أبيات، فردت عليه ببيتين، وأرجح أن يكون أحد أصدقائها هو الذي نظم ما نسب إليها في إحدى جلسات الصالون، أو أن إسماعيل صبري هو الذي نظمه. فقد جاء في ديوانه: «وكتب - إسماعيل صبري - تحت بيتين قالتهما أديبة معروفة - مي - وهما:
فديتك يا هاجري
فهل ترتضي بالفدا
سهرت عليك الدجى
ونحت ولكن سدا
Halaman tidak diketahui
فأجابها:
أهاجرتي أطفئي
لواعج لا تنتهي
مضت في هواك السنون
وما نلت ما أشتهي
إذا قيل مات الأديب
بفاتنة أنت هي
فلما قرأت أبياته كتبت تحتها:
زمانك قبلي انتهى
ولا يرجع المنتهى
Halaman tidak diketahui
فحسبي أن أزدهي
وحسبك أن تشتهي»
هذا ما ورد في الديوان، وليس صحيحا ذلك الذي نسب إليها لقولها لي - وهي الصادقة فيما تقول - إنها لم تقل طوال حياتها شعرا إلا شطرا واحدا في تلك المناسبة، ولأن تربيتها المحافظة التي يعرفها الجميع، وأخلاقها التي يغلب فيها الوقار والحياء، تأبى عليها أن ترسل شعرا في الحب لأحد من الناس مهما كان صديقا عزيزا، وإن كانت لها رسائل غرامية منثورة بينها وبين المرحوم جبران خليل جبران، ولكنها رسائل حب من نوع أدبي رفيع.
غرام صبري بالآنسة مي
على أن ما في ديوان إسماعيل صبري من الغزل ليس في الآنسة مي وحدها؛ لأن معظمه قيل قبل سنة 1911 ولم يعرفها إسماعيل صبري، بل لم تظهر في الحياة العامة إلا منذ سنة 1913 حين خطبت لأول مرة في حفلة تكريم خليل مطران بمناسبة الإنعام عليه بالوسام المجيدي، ثم صار يتردد هو وكبار الأدباء على صالونها بعد ذلك، وقال فيها شعرا بعضه مشهور وبعضه لم يشتهر أو لم يعرف. ولعل أكثر ما قاله من النسيب قبل ذلك كان في الأديبة اللبنانية ألكسندرة أفيرنيوه.
ولكنه لما عرف الآنسة مي، وكانت في ميعة الصبا وريق الشباب وهو في كهولته ومطلع شيخوخته تشبب بها، وهو الشاعر الكبير المرهف الحس، المشبوب العاطفة، وأخذ يفيض من معينه العذب، ويتدفق من بحره بالدر النفيس، وكان أول لقاء له حين بعث إلى والدها الأستاذ إلياس زيادة صاحب جريدة المحروسة يطلب أن يزوره ليتعرف إلى فتاته التي أعجبه إلقاؤها وخطبتها في حفلة تكريم مطران، وكانت وقتئذ قد بدأت تكتب في هذه الجريدة «يوميات فتاة»، فأجابه الأستاذ بالترحيب، وحدد له موعد الزيارة، فنظم إسماعيل صبري هذه الأبيات:
خبروني اليوم أني في غد
مالئ عيني منها ويدي
كيف يبقى من قضى الليل على
جرف هار إلى ذا الموعد
Halaman tidak diketahui
رب كن عوني وأخرني إلى
أن أرى شمس الضحى من عودي
يا أساة الحي لو أجلتم
رأيكم في إلى يوم غد
رب داء لا يرجى برؤه
قد شفته زورة من مسعد
وزارها إسماعيل صبري، وكان من أكثر زوارها ترددا على صالونها هو وولي الدين يكن إلى أن توفي سنة 1923، وتوفي ولي الدين سنة 1921. وقد نشر بعض ما قالاه في الآنسة «مي» في ديوان كل من الشاعرين، ونسي أو فقد البعض الآخر!
صبري وولي الدين
ونذكر أنهما اجتمعا عندها ذات ليلة من لياليها الأدبية العامرة، فأطلعتهما على صورة لها نقلها أحد المصورين حديثا، فارتجل إسماعيل صبري هذين البيتين:
أرسلي الشعر خلف ظهرك ليلا
Halaman tidak diketahui
وأعقديه من فوق رأسك تاجا
أنت في الحالتين بدر نراه
صادعا آية الدجى وهاجا
أما ولي الدين فقد نظر إلى الصورة فوجدها قد جلست متكئة بيدها على المقعد، ومسندة عليها خدها كمن يفكر ويستمع لوحي فكره، ثم انتحى ناحية من المجلس، ومكث برهة يكتب، ثم عاد إلى الحاضرين، فأنشد في وصف هذه الصورة:
أوحى إليها ربها وحيه
ألا تراها وهي تسمع
رقت معانيها وألفاظها
كأنما ألفاظها أدمع
يا «مي» ما في الكون من بهجة
إلا ومن عينيك لي تسطع
Halaman tidak diketahui
ولا يتسع المقام لذكر كل ما قاله هذان الشاعران في هذه الأديبة الكبيرة التي أثارت عواطف الأدباء، فجاءوا بثروة نفيسة من شعر النسيب لا تقل جودة وبلاغة ورقة عما ورد عن شعراء العربية في هذا الباب في أزهى عصور الأدب العربي. وبحسبي أن أذكر هذه الأبيات للمرحوم إسماعيل صبري التي سمعتها بصوت «مي» وإلقائها الجميل:
يا ظبية من ظباء الأنس راتعة
بين القصور تعالى الله باريك
هل النعيم سوى يوم أراك به
أو ساعة بت أقضيها بناديك
وهل يعد علي العمر واهبه
إن لم يجمله نظم الدر من فيك
إن قابلتك الصبا في مصر عاطرة
فأيقني أنها عني تناجيك
وأنها حملت في طي بردتها
Halaman tidak diketahui