أثر العلم الشرعي في مواجهة العنف والعدوان
أثر العلم الشرعي في مواجهة العنف والعدوان
Penerbit
الكتاب منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات
Genre-genre
أثر العلم الشرعي في مواجهة العنف والعدوان إعداد
د: عبد العزيز بن فوزان بن صالح الفوزان
عضو هيئة التدريس في كلية الشريعة
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رب لنا غيره، ولا معبود بحق سواه.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخليله ومصطفاه.
صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
أما بعد: فإن الأمن حاجة إنسانية ملحة، ومطلب فطري لا تستقيم الحياة بدونه، ولا يستغني عنه فرد أو مجتمع، والحياة بلا أمن حياة قاحلة مجدبة، شديدة قاسية، لا يمكن أن تقبل أو تطاق.
فالأمن من أهم مقومات السعادة والاستقرار، وأهم أسباب التقدم والتحضر والرقي، وهو مطلب تتفق على أهميته جميع الأمم والشعوب، والأفراد والمجتمعات، في كل زمان ومكان.
وإذا فقد الأمن اضطربت النفوس، وسيطر عليها الخوف والقلق، وتعطلت مصالح الناس، وانقبضوا عن السعي والكسب، وانحصرت هممهم بتأمين أنفسهم ومن تحت أيديهم، ودفع الظلم والعدوان الواقع أو المتوقع عليهم.
1 / 1
وإذا كان الأمن حاجة إنسانية ملحة، لا يستغني عنها فرد أو مجتمع، فإن ذلك يعني بالضرورة وجوب مواجهة ما يخل به من العنف، ومعالجة آثاره، وقطع الأسباب الداعية إليه.
وللإسلام منهجه المتفرد في تحقيق الأمن ومكافحة العنف، فهو يهتم بالجوانب التربوية والوقائية التي تمنع وقوع العنف أصلًا، كما يهتم بالجوانب الزجرية والعقابية، التي تمحو آثاره، وتمنع من معاودته وتكراره.
وهذا بخلاف ما عليه المناهج البشرية الجاهلية، والقوانين الوضعية التي تهتم بمعالجة العنف بعد وقوعه، أكثر من اهتمامها بمنع حدوثه ابتداءً.
1 / 2
ولو قدر لها أن تهتم بالجوانب الوقائية والتربوية، لم يتوفر لها من وسائل ذلك، ومن الالتزام بها والاستجابة لها واحترامها ما يتوفر للتشريع الإلهي، الذي هو من وضع الخالق الحكيم، الذي خلق الإنسان، ويعلم ما يصلحه ويسعده في عاجل أمره وآجله، تشريعٌ بريء من جهل الإنسان، وهوى الإنسان، وضعف الإنسان، وتقلبات الإنسان، لا محاباة فيه لفرد، ولا لطبقة، ولا لجنس؛ لأن الله هو رب العالمين، والناس كلهم عباده، وقد أنزل عليهم شريعته لتحقيق أمنهم وحفظ مصالحهم، وهدايتهم لما فيه سعادتهم في دنياهم وآخرتهم.
وسوف أركز في هذا البحث على بيان أثر العلم الشرعي في مواجهة العنف، فإن العلم الشرعي المؤسس على الكتاب والسنة هو الذي يهذب النفوس، ويطهر القلوب، ويقيد صاحبه عن العنف والإجرام، ويمنعه من الظلم والعدوان، ويحمله على تعظيم حقوق العباد وحفظ مصالحهم، ويحجزه عن الإقدام على هتك الحرمات، وارتكاب المظالم والموبقات، وهو يمنع من العنف ابتداءً، وهو أيضًا من أعظم الأسباب المعينة على علاج هذه الظاهرة الخطيرة، وحمل من تلبس بشيء منها على التوبة والإنابة، وعدم التكرار والمعاودة.
1 / 3
وقد انتظم هذا البحث في مقدمة وتمهيد وخاتمة ومبحثين على النحو الآتي:
المبحث الأول: تحريم الاعتداء على النفس.
المبحث الثاني: تحريم إنكار المنكر إذا كان يستلزم ما هو أنكر منه.
والله أسأل أن يرزقنا الفقه في الدين، والاستقامة على منهج سيد المرسلين، وأن يعيذنا من مضلات الفتن ومناهج المفتونين، وأن يهدي ضال المسلمين، ويحفظ بلادنا وسائر بلاد المسلمين من غوائل الأعداء والمتربصين، وتهوكات الجهلة والمتهورين.
1 / 4
تمهيد
ضلال الخلق على كثرة صوره وأنواعه، وتعدد مظاهره وأشكاله، سواء كان في الأفكار والتصورات، أو الأخلاق والسلوكيات، أو الأعمال والممارسات، يعود في حقيقته إلى سببين رئيسين:
الأول: الجهل أو العمى، والثاني: الظلم أو الهوى.
قال الله ﷿: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: ٧٢] .
فبين أن الأصل في الإنسان هو الظلم والجهل، إلا من زكاه الله بالعدل الذي يمنعه من الظلم، والعلم النافع الذي يرفع عنه الجهل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والجهل والظلم هما أصل كل شر، كما قال سبحانه: ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: ٧٢] " (١) .
_________
(١) اقتضاء الصراط المستقيم، ص: ٣٧.
1 / 5
ويدل على ذلك أيضًا: أن الله تعالى أمرنا بقراءة أم القرآن في كل ركعة من ركعات الصلاة، سواء كانت مفروضة أو مستحبة، ومن بين آياتها قوله سبحانه: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: ٦ ٧] .
فأرشدنا إلى سؤاله الهداية إلى الصراط المستقيم، وذلك يتضمن معرفة الحق والتوفيق للعمل به، وهما ينافيان الجهل والهوى، ثم بين أن هذا هو طريق الذين أنعم عليهم من النبيين وأتباعهم بإحسان، حيث دلهم على الحق، وأعانهم على امتثاله والعمل به، بخلاف المغضوب عليهم والضالين، الذين تنكبوا الصراط المستقيم، فوقعوا في الشرك والضلالات، والبدع والخرافات، وارتكبوا الكبائر والمنكرات، إما اتباعًا للهوى مع علمهم بالحق، وهؤلاء هم المغضوب عليهم، كاليهود، الذين أضلهم الله على علم، فتركوا الحق مع علمهم به، وإما جهلًا منهم بالحق، فعبدوا الله على جهل، وهؤلاء هم الضالون، كالنصارى، الذين يتقربون إليه بالشركيات، ويتعبدون له بالبدع والضلالات.
1 / 6
وإذا كان المسلم مأمورًا بأن يتفهم هذه المعاني العظيمة، ويدعو بهذا الدعاء الجامع في كل ركعة من ركعات الصلاة، فإن هذا دليل على خطورة الجهل واتباع الهوى، ووجوب مجاهدة النفس على طلب العلم والهدى، واتباع الحق والاستقامة عليه، وأن الجهل والهوى هما سبب ضلال الخلق، وبعدهم عن الهدى ودين الحق.
ولو تأملت في أحوال العاصين المفرطين، والمبتدعة الضالين، والغلاة الجافين، لوجدتهم إنما أتوا من قبل هذين الأمرين أو أحدهما.
والجهل أصل الضلالين، وأخطر الشرين، وما من أحد يتبع الهوى، ويعرض عن الحق والهدى إلا بسبب جهله بالله وسطوته، وغفلته عن شؤم الذنب وسوء عاقبته.
وفي ظني أن أكثر هؤلاء المذكورين إنما تنكبوا الصراط المستقيم بسبب الجهل وقلة الفقه، وضعف البصيرة في الدين.
1 / 7
فكثير ممن يرتكبون الكبائر، ويسرفون على أنفسهم بالمعاصي، أو يتساهلون بظلم العباد وبخسهم حقوقهم، لا يعلمون أن فعلهم هذا من المحرمات الكبائر، وإن عرفوا تحريمه من حيث الجملة، فإنهم لا يدركون شناعته وشدة تحريمه، وما يترتب عليه من الإثم والشؤم، والعواقب السيئة في الدنيا وفي الآخرة، فيتساهلون في فعله، ويستهينون بشأنه، ولو علموا ما ورد في هذا المنكر من الوعيد والعذاب الشديد، لما ارتكبوه، أو أصروا عليه واستمرءوه.
فمن يشرب الخمر مثلًا أو يفعل الزنا، أو يمارس الغيبة أو النميمة، لو علم بأضرار هذه المعاصي على القلب والبدن، والدين والدنيا، وما يترتب عليها من العذاب والنكال الأليم، والعقوبات العاجلة والآجلة، لكان ذلك أعظم زاجر له عن اقترافها، أو استمرائها والتهاون بشأنها.
1 / 8
وقد يُؤتى الإنسان من قبل جهله من وجه آخر، حيث يظن أن فعله هذا مبارك مشروع، وصاحبه مأجور مشكور، وليس الأمر على ظنه وحسبانه في الواقع، كمن يظلم كافرًا أو فاسقًا، ويتعمد الإساءة إليه بالقول والفعل، وهو يظن أن عمله هذا قربة يرفعه الله بها درجات، ويجهل أن الظلم حرام في حق كل أحد، سواء كان مسلمًا أو كافرًا، برًّا أو فاجرًا، وأن فعله هذا من الصد عن سبيل الله، والظلم لعباد الله، وكلاهما حرام بنصوص كثيرة في الكتاب والسنة.
وبهذا نعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يحرمان إذا تضمنا تفويت مصلحة أكبر، أو جلب فتنة ومفسدة أعظم.
ومما سبق يتبين لنا أمران مهمان:
الأول: حاجتنا بل اضطرارنا إلى معرفة الحق وطلب العلم الشرعي؛ ولهذا جعل الله تعالى طلب العلم الشرعي فريضة على كل مسلم ومسلمة، فعن أنس ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «طلب العلم فريضة على كل مسلم» (١)
_________
(١) رواه ابن ماجة: ٢٢٤، وأبو يعلى: ٢٨٣٧، وله شواهد عديدة، وصححه السيوطي في «الجامع الصغير»: ٥٢٦٤، والألباني في «صحيح الترغيب والترهيب»: ٧٠، وقال في تعليقه على «مشكاة المصابيح» ١ / ٧٦: «واعلم أن السيوطي قد جمع هذه الطرق حتى أوصلها إلى الخمسين، وحكم من أجلها على الحديث بالصحة، وحكى العراقي صحته عن بعض الأئمة، وحسنه غير ما واحد، والله أعلم، وأما زيادة» ومسلمة «التي اشتهرت على الألسنة فلا أصل لها ألبتة» .
1 / 9
وهذا يشمل كل علم يتوقف عليه القيام بالواجب أو ترك المحرم، فتعلمه فرض عين على كل مسلم مكلف، أما ما زاد على ذلك من العلوم الشرعية أو الدنيوية التي تحتاجها الأمة، فهذه تعلمها فرض كفاية، إذا قام بها من يكفي من سائر أمة الإسلام، وسدت بهم حاجة الأمة، فقد حصل المقصود، وأدي الواجب، وسقط الإثم عن الباقين، وإن أطبقت الأمة كلها على تركه، أو تصدى له من لا تحصل بهم الكفاية، أثمت الأمة كلها، الرجال والنساء، القادرون وغير القادرين، أما القادر فيأثم لعدم قيامه به ومباشرته له مع قدرته عليه، وأما غير القادر فواجبه أن يحض القادرين على القيام بما أوجبه الله ﷿، وإن كان إثم القادر أعظم من إثم غيره، لكنهم جميعًا آثمون، وهذا هو الشأن في جميع فروض الكفايات.
ولأجل هذا حث الله تعالى على طلب العلم النافع والاستكثار منه، وأثنى على العلماء، وبين عظيم فضلهم ورفعة مكانتهم، وأنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ووردت كذلك أحاديث كثيرة تبين فضل العلم والعلماء، وأنهم ورثة الأنبياء في معرفة الحق والعمل به، وفي حمل هذا الدين وتبليغه للعالمين، وهي آيات وأحاديث معلومة فلا نطيل بذكرها.
1 / 10
بل بين النبي ﷺ أن الاشتغال بالعلم تعلمًا وتعليمًا أفضل من الاشتغال بنوافل العبادات التي يقتصر نفعها على صاحبها، وأن من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع، ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وبين الفرق الواسع والبون الشاسع بين العالم البصير والعابد الجاهل، فقال: «من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر» (١)
ولهذا التفضيل أسباب منها ما يأتي:
_________
(١) رواه أبو داود: ٣٦٤١، ٣٦٤٢، وابن ماجة: ٢٢٣، والدارمي: ٣٤٢، وحسن إسناده الألباني في تعليقه على «مشكاة المصابيح»: ١ / ٧٤، وفي «صحيح الترغيب والترهيب»: ٦٨، ويشهد له حديث أبي أمامة الباهلي ﵁، وفيه: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، ثم قال رسول الله ﷺ: إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير) والحديث رواه الترمذي: ٢٦٨٥، وصححه السيوطي في «الجامع الصغير»: ٥٨٥٩، ورواه الدارمي بهذا اللفظ من حديث مكحول الدمشقي مرسلًا: ٢٨٩، قال الألباني في تعليقه على «مشكاة المصابيح» ١ / ٧٥: وهو مرسل حسن.
1 / 11
١- أن العالم أعرف بالله ﷿ وحقوقه، وأكثر محبةً له وتعظيمًا لجنابه، ورجاء لثوابه، وخوفًا من عقابه، فمن كان بالله أعرف كان منه أخوف، ولهذا قال ربنا سبحانه: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: ٢٨] فبين أنهم هم الذين يخشونه حق خشيته، لكمال معرفتهم به، وامتلاء قلوبهم بتعظيمه ومحبته، ورجائه وخشيته، وتفكرهم في آياته الكونية والشرعية، وإدراكهم لمقاصد شريعته وغاياتها، وحكمها وأسرارها، فيزدادون يقينًا بأن هذا الدين هو الدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده، وأنزله رحمة للعالمين، وأن الذي جاء به هو رسول الله حقًا، الذي لو لم يأت بآية تدل على صدقه وصدق ما جاء به، وأنه من عند الله إلا ما تضمنته هذه الشريعة من الحكم والمصالح لكانت كافية شافية.
1 / 12
٢- أن العلم النافع يعصم صاحبه بتوفيق الله من الانحراف والضلال، ويحميه من الوقوع في البدع والمحدثات، والشركيات والضلالات، ويحمله على تعظيم الشعائر والحرمات، والتجافي عن المنكرات والموبقات، بخلاف العابد الجاهل، فإنه قد يقع في شيء من هذه المخالفات بسبب جهله، وربما يتقرب إلى الله بما لم يأذن به الله، كحال عباد النصارى، ومن شابههم من جهلة عباد المسلمين الذين يتعبدون بالبدع والمحدثات، أو يتقربون إلى أصحاب القبور بأنواع القربات، ويشركون بالله تعالى، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
وربما اشتغل العابد الجاهل بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوج عن الراجح، وبالمحبوب لله عن الأحب إليه، فهو يتعبد بالأعمال المفضولات ويترك الأعمال الفاضلات، ويتوسع في النوافل والمستحبات على حساب الفرائض والواجبات، فتجده يُشغَل بنوافل العبادات عن ما أوجبه الله من بر الوالدين، وصلة الأرحام، وتربية الأولاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح للمسلمين، وغيرها.
1 / 13
وعلاج ذلك بالبصيرة في الدين، والعلم بمراتب العبادات، ومعرفة أقدارها، والتمييز بين فاضلها ومفضولها، فإن في الطاعات سيدًا ومسودًا، ورئيسًا ومرؤوسًا، وكبيرًا وصغيرًا، وذروةً وما دونها (١)
فالعلم النافع هو الذي يقي من مكايد الشيطان ونزغاته، ويكشف شبهاته وتلبيساته، وكلما كان المؤمن الصادق أكثر علمًا بالشريعة وتضلعًا منها، كان أكثر تمسكًا بالسنة وحرصًا عليها، وبعدًا عن البدعة ونفورًا منها، وحذرًا من مصايد الشيطان ووساوسه.
_________
(١) انظر: مدارج السالكين ١ / ٢٢٥.
1 / 14
٣- أن العلم نور يهدي إلى الحق، وينير الطريق للسالكين، وبه يُميَّز بين الإيمان والكفر، والمصلحة والمفسدة، والخير والشر، بل يعرف به خير الخيرين وشر الشرين، وعلى قدر علم الإنسان وفقهه، وقوة بصيرته، وسعة أفقه، ومعرفته بواقعه، يكون حكمه على الأحداث من حوله، وإدراكه لكيفية التعامل معها، ونظره إلى عواقبها ومآلاتها، ومتى يقدم، ومتى يحجم؟ ومن يعادي، ومن يسالم؟ ولهذا أمرنا ربنا ﷿ بالرجوع إلى العلماء الربانيين في الأمور التي تهم الأمة، وتمس مصالحها العامة، فقال سبحانه: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: ٨٣] .
1 / 15
فهذا إنكار من الله تعالى على من يتعجل في الحكم على الأمور، ويبادر بنشر الأخبار وإذاعتها قبل التأكد من ثبوتها وصحتها، ومناسبة نشرها من عدمه، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة، المتعلقة بالمصالح العامة، أن يتثبتوا ويتعقلوا، وأن يردوا الأمر إلى أولي الأمر من العلماء الراسخين، أهل الرأي والحصافة، والعقل والرزانة، وبعد النظر وسعة الأفق، الذين يعرفون الأحوال، ويميزون بين المصالح والمفاسد، فيهدونهم بإذن الله إلى الطريق الأسد، والمنهج الأرشد، فإن رأوا في إذاعته مصلحةً ونشاطًا للمؤمنين، وسرورًا لهم، وتقوية لعزائمهم، أوتحرزًا من أعدائهم، وحفزًا لهم على مواجهتهم واتقاء شرهم وعدوانهم، فعلوا ذلك، وإن رأوا المصلحة في كتمانه، لم يذيعوه (١)
٤- أن عمل العابد مهما عظم، فإن نفعه قاصر على نفسه، بخلاف العالم فنفعه متعدٍ إلى غيره (٢)
الثاني: وجوب الحذر من الأئمة المضلين، والجهلة المتعالمين، والمتصدرين للفتوى وليسوا من أهلها، ولهذا أمرنا الله - تعالى - بسؤال أهل الذكر فقال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء: ٧] .
_________
(١) انظر: تفسير ابن كثير ١ / ٧٠٤٧٠٥، وتفسير السعدي ١ / ٣٧٧.
(٢) انظر: مدارج السالكين ١ / ٨٧، وتلبيس إبليس، ص: ١٧٢.
1 / 16
وأهل الذكر هم العلماء الراسخون، الذين شهدت لهم الأمة بالعلم والإمامة في الدين، أما أدعياء العلم، وأنصاف المتعلمين، والمتطفلون على موائد العلماء، فليسوا أهلًا لأن يستفتوا ويصدر عن رأيهم، وخصوصًا في الأمور العامة التي تمس مصالح الأمة.
وقد حذرنا النبي ﷺ من أمثال هؤلاء فقال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» (١)
وهذا يتضمن التحذير من ترئيس الجهال، وتخلية الساحة لهم، بقعود العلماء الراسخين عما أوجبه الله عليهم من البلاغ والتبيين، وفيه التحذير من استفتاء أدعياء العلم وأنصاف المتعلمين، ومن يتصدرون للفتوى، وهم في الحقيقة جهال أدعياء، وفيه التحذير الشديد لهؤلاء من القول على الله بلا علم، وإقحام أنفسهم فيما لا يحسنون، والخوض في بحر لا يجيدون السباحة فيه، فيَضلون ويُضلون، ويتحملون أوزارهم وأوزار من يضلونهم بغير علم.
_________
(١) رواه البخاري: ١٠٠، ومسلم: ٢٦٧٣.
1 / 17
ويؤكد ذلك أن النبي ﷺ حين حذر من فتنة الخوارج، وأمر بقتلهم، بين أنهم إنما أُتوا من قبل جهلهم، وقلة فقههم، فجنوا على أنفسهم وعلى أمتهم، ولم يشفع لهم حسن نيتهم، وسلامة قصدهم، وكثرة عبادتهم، فعن علي بن أبي طالب ﵁ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «سيخرج في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة» (١)
فبين أنهم سفهاء الأحلام، وهذا دليل على ضعف عقولهم وغلبة الجهل عليهم، ووصفهم بأنهم "حدثاء الأسنان"، وحديث السن في الغالب أقرب إلى الجهل والطيش، والتسرع وعدم الروية، وجنوح الفكر والتطرف في الرأي، من كبير السن، الذي عركته الحياة، وحنكته التجارب، وأدرك أهمية النظر في المآلات والعواقب.
_________
(١) رواه البخاري: ٣٤١٥، ٤٧٧٠، ٦٥٣١، ومسلم ١٠٦٦.
1 / 18
ووصفهم كذلك بأنهم "يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم"، وهذا أيضًا دليل على جهلهم وضعف بصيرتهم، فإنهم مع كثرة قراءتهم للقرآن لا يجاوز حناجرهم، فهم لا يعونه بعقولهم، ولا يفقهون مواعظه ونذره، ولا يعلمون أحكامه وحدوده.
وقد بلغ من فرط جهلهم، وقلة توفيقهم أنهم كما وصفهم النبي ﷺ في حديث آخر: «يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان» (١)، فقد استحلوا دم علي بن أبي طالب ﵁ ومن كان معه من خيار الصحابة والتابعين، هذا فضلًا عن احتقارهم لكبار علماء الصحابة، وزهدهم في علمهم، وظنهم أنهم - على قلة بضاعتهم وضعف عقولهم - أعلم منهم، وأبصر بالأمور، فنعوذ بالله من عمى القلوب، وانطماس البصائر، ولبس الحق بالباطل.
_________
(١) رواه البخاري: ٣١٦٦، ومسلم: ١٠٦٤.
1 / 19
المطلب الأول
تحريم اعتداء الإنسان على نفسه
نفس الإنسان ليست ملكًا له، وإنما هي ملك لخالقها وموجدها ﷿، وهي أمانة عند صاحبها، سيسأل عنها يوم القيامة، أحفظها وقام بحقها، أم ضيعها وظلمها، ولم يقم بما يجب لها؟
ولهذا فلا يجوز للإنسان أن يقتل نفسه، ولا أن يغرر بها في غير مصلحة شرعية، ولا أن يتصرف بشيء من أجزائها إلا بما يعود عليها بالمصلحة، أو يدرأ عنها المفسدة، وليس له أن يُضر بنفسه بحجة أنه يتصرف فيما يخصه، وأنه لم يعتد على غيره، فإن اعتداءه على نفسه كاعتدائه على غيره عند الله تعالى (١)
قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ [النساء: ٢٩ - ٣٠] .
فهذا نهي للمؤمنين أن يقتل بعضهم بعضًا (٢)، ونهي للإنسان عن قتل نفسه، سواء كان ذلك بتعمد قتلها مباشرة، أو بفعل الأخطار المفضية إلى التلف والهلاك، ثم توعّد من يقتل نفسه أو نفس غيره بغير حق بأن يصليه نار جهنم وساءت مصيرًا (٣)
_________
(١) انظر: الإسلام وضرورات الحياة، ص: ٦٣.
(٢) قال القاسمي في تفسيره ٥ / ١٢٠٣: «فإن كل المؤمنين كنفس واحدة، والتعبير عنهم بالأنفس، للمبالغة في الزجر عن قتلهم، بتصويره بصورة ما لا يكاد يفعله عاقل» .
(٣) انظر: تفسير السعدي ١ / ٣٤١، ٣٤٢.
1 / 20