وكانت هذه الملفات سرا مكنونا لا يطلع عليها مدير المعهد نفسه ولا أمين لجنة الحزب فيه، وكان الغرض من ذلك حماية المخبرين وإحكام شبكة التجسس، وكان للإدارة الخاصة عمالها السريون في كل فرع من فروع المعهد بل وفي خلايا الحزب نفسها، على أن لجنة الحزب كان لها هي الأخرى مخبرون في هذه الخلايا، لا تعرفهم الإدارة الخاصة، وهكذا كان على كل جاسوس جاسوس مثله في نظام معقد دقيق يقذف الرعب في قلب كل إنسان.
ولم يكن هذا هو كل ما في الأمر، فقد كان للقسم السياسي هو الآخر عمال في المعهد غير عمال الإدارة الخاصة يتصلون مباشرة برياسة هذا القسم في الإقليم، وكان هؤلاء بمثابة رقابة ثانية على لبد وموظفيه، وكان للجنة الحزب بالمدينة عيونها في الخلايا، كما كانت لجنة الإقليم تتلقى التقريرات السرية من أفراد معينين في لجنة المدينة، وكان هذا الهرم المتشابك من الرقابة يمتد إلى أعلى قمته، إلى لجنة الحزب المركزية في موسكو ثم إلى الهيئة السياسية العليا التي يرأسها ستالين.
لقد كانت الحياة السياسية تحيط بها شبكة من التجسس تمتد خيوطها من أعلاها إلى أسفلها ومن أسفلها إلى أعلاها، تجسس من الحزب وعلى الحزب، من القسم السياسي وعلى القسم السياسي، يتعاون العمال فيها على جمع المعلومات في بعض الحالات، ويتنافسون على جمعها في حالات أخرى؛ ولذلك كنا نعيش في عالم كله عيون وآذان، وما من شك في أن الرجل العادي لم يكن يعرف مدى هذا النظام ولا دقته، بل إني أنا نفسي حين أكتب هذه الخلاصة الموجزة أستمد بعض ما أكتب من المعلومات التي كشفتها بعد خلال تجاربي في السنين التالية، وكل ما كان يعرفه الرجل العادي أن «للجدران آذانا» وأن الصراحة أقرب سبيل إلى الهلاك.
ولكن رغم هذا كله كانت المعلومات المحظورة تنتشر في كل مكان، وانتشارها هذا دليل على توتر مشاعر الناس في ذلك الوقت وعلى ما تمتاز به طبيعة الروس من حب للكلام، ومن عطف على البائسين، ومن إفصاح عما في ضمائرهم، ومن أجل هذا كنا إذا قطعنا على أنفسنا العهود بألا يفشي أحدنا ما يسمعه من زميله نخاطر بالتحدث فيما يخالجنا من شكوك مغيظة مؤلمة، وترتعد فرائصنا فرقا حين نفكر في أن كل كلمة ننطق بها ستجد سبيلها إلى سجلات حياتنا الخاصة، وكم من مرة حدث في سني التطهير المقبلة أن ووجهت بعبارة عارضة جرت على لساني في مجلس خاص لصديق كنت أثق به! وكم من مرة سئلت لم لم أنقل إلى من يهمهم الأمر عبارات سمعتها من غيري؟! لقد كان عدم التبليغ عن العواطف «المعادية للحزب» أو «المعادية للسوفيت» يفسر بأنه اشتراك في هذه الجرائم ورضا عنها.
ولم تكن الإدارة الخاصة تتوانى لحظة عن مطاردة «الأعداء»، وكان منا من يعرفون مثلا ما وضعته من خطط لفرض الرقابة الشديدة على الأستاذ دنيك العلامة الذي كان يدرس لنا علم الميكانيكا الإنشائية، وكان أهم من تدريسه وأعظم منه نفعا ما يجربه في معمل المعهد من أبحاث في مشروعات الإنشاء الصناعي الخطيرة التي تتطلب نفقات باهظة، وإذ كان هذا الرجل لا ينتمي إلى الحزب، وكان قبل الثورة من رجال الفكر المعدودين، والإخصائيين الذين لا يبدو عليهم شيء من الاهتمام بالسياسة، فقد كان بطبيعة الحال هدفا للارتياب الشديد، فكيف السبيل إذن لمراقبة نشاطه وهو نشاط فني إلى حد يصعب معه أن تتبين العيون ما عسى أن يكون فيه من عبث بالآلات أو المصانع.
لقد وجد الجواب عن هذا السؤال عند زوجة الأستاذ، وكانت تشغل هي الأخرى منصب كبيرة مساعديه، وكانت سيدة طويلة القامة نحيفة الجسم، شقراء اللون، متوسطة الجمال، في وسط العقد الرابع من عمرها، فكانت بذلك تصغر زوجها بنحو ثلاثين عاما، ولما كانت بطبيعة الحال تحترم زوجها لجهوده وعلمه، فلم يكن ولاة الأمور يرون أن في وسع رجال القسم السياسي أن يعتمدوا عليها كل الاعتماد في أن تكون عينا لهم عليه؛ ولهذا عمدوا إلى وسيلة أخرى فوضعوا في طريقها محبا لا تستطيع مقاومة حبه، وكان هذا المحب هو بفلنكو، وهو مهندس متطرف في حزبيته، قوي الجسم عريض المنكبين ضخم الرأس والوجه، لم يلبث أن أسر قلب الزوجة الشابة، ولم يكن في المعهد من لا يعرف أن زوجة دنيك وقعت في هواه إلا عدد قليل ومنهم زوجها نفسه، كما لم يكن فيه أحد غير الزوجة نفسها يظن أن حبيبها إنما يؤدي عملا عهدت به إليه الإدارة الخاصة، على أن ما ضحى به بفلنكو في هذه التمثيلية لم يجده نفعا، ولم يكن في وسعه أن يكشف عن أي عطل أو تخريب في معمل الأستاذ دنيك.
وقلما كان أحد يشير في حديثه إلى هذا التجسس المعقد المنظم اللهم إلا في عبارات غامضة خبيثة «ونوادر سياسية» رمزية - أي فكاهات ترمي إلى غرض سياسي - ولكنه مع ذلك كان نظاما حقيقيا شاملا لا يقل في حقيقته وشموله عن الهواء الذي نتنفسه. وكان هذا النظام المحكم يحيط بالمعمل ويتغلغل فيه كما يحيط بالمعهد وبالصحف المحلية التي كنت أكتب فيها، وبالهيئات الحزبية التي كانت تستنفد مني نشاطا مطردا لزيادة؛ لأني كنت وقتئذ من أعضاء الهيئة السياسية للجنة الحزب في معهدنا.
وتجمع من هذه الجاسوسية الشاملة سيل جارف من البيانات الشخصية والاتهامات، بعضها يعتقد ناقله بصدقه وبعضها قائم على حب التشفي والاستهزاء، وقناطير مقنطرة من الملفات دونت فيها أقوال آلاف الآلاف من الجواسيس وكلها مرتبة ومدروسة ومرقومة، ترسل منها صور إلى المدعي العمومي وإلى موظفي الحزب المنوطين بتأديب أعضائه، وإلى المحاكم السرية التابعة للقسم السياسي إذا ما تطلب الأمر اتخاذ إجراء عاجل، وكانت هذه كلها سيوف مرهفة مسلولة فوق رقاب المارقين المرتدين أو المتشككين المترددين، إذا احتاج الأمر إليها في مستقبل الأيام، وكانت كلها مصفوفة في عشرات الآلاف من الخزائن تعد كل واحدة منها حصنا مليئا بالأسرار الخاصة، وحوادث النزق والطيش، وبالأكاذيب والملق والأخطاء.
وكان هذا النظام السري الدقيق من نظم الرقابة على الأهلين وهتك أسرارهم، هو الذي قضى أبد الدهر على الأسرار الداخلية والحرية البيتية وجعلها من العادات العتيقة البالية، ومع ذلك فقد كان يسمى في عرف حزبنا الحاكم «الديمقراطية الحزبية».
في عام 1931م ألقى الرفيق ستالين خطبة في مؤتمر عام من الموظفين المشتغلين بالشئون الاقتصادية زلزلت قواعد الصناعة السوفيتية من أساسها وبدلت مظاهر حياة الصناع والموظفين على السواء، واشتملت هذه الخطبة على «عناصره الستة المهمة» لرفع القدرة على الإنتاج، وكان هم هذه العناصر الدقة في حساب النفقات، والعناية أكثر من الماضي بتركيز إدارة المشروعات، وزيادة تحديد تبعة العجز والإتلاف، والتفرقة العظيمة بين دخل الأفراد.
Halaman tidak diketahui