وتحدثت إلى جوليا تلفونيا وأطلعتها على الخبر، واجتمعت بها عدة مرار قبل سفري، وكان اجتماعنا في كل مرة اجتماعا عاصفا، أذرفت فيه الدموع مدرارا، وألححت عليها أن تسافر معي مهما تكن النتائج، وخيل إلي في بعض الأحيان أن عزيمتها قد وهنت، وأنها قد تتبعني بالفعل، ولكن الأسباب التي تحول بينها وبين عملها هذا - أيا كانت هذه الأسباب - أقوى مما تستطيع التغلب عليها. «لا تطلب إلي هذا، ولا تقس علي يا فيتيا، إني لا أستطيع أن أفعل، وإن كانت الحياة بعيدة عنك ستكون موتا حيا، لا تطلبه إلي؛ فحسبي ما بي من آلام.»
وخرجت مع صديقي ألكسي في مساء اليوم السابق لسفري، وقضينا عدة ساعات نسير في شوارع خاركوف، ووعدني أن يوافيني على الدوام بأنباء جوليا، وأفضيت إليه بعزمي على أن تلحق هي بي، فإذا لم يكن ذلك في الأيام القريبة فلا أقل من أن يكون بعد فراغي من دراستي في المعهد حين يكون في وسعي أن أتزوج.
وجاءت إلى المحطة في صباح اليوم الثاني جوليا وماري، كما جاء أيضا رفاقي في حجرتي وغيرهم من الأصدقاء؛ ليودعوني وقت سفري، وتحدرت الدموع على خدي جوليا، وتظاهر كل من كان حاضرا بأنه لم يرها، ولم يدر قط بخلدي وقتئذ أنني لن أراها بعد تلك الساعة.
وكتبت إليها مرارا من دنيبروبتروفسك ولكنني لم أتلق منها جوابا، وألححت على ألكسي أن يتوجه تلقاء مسكن «ر» ففعل، ودق الجرس، ففتحت له الباب خادمة، ولما سألها عن مدام «ر» أخذت تنتحب وأجابته بقولها: «إن جوليا ليست هنا، وقد خلت منها الدار.» وأخذت تبكي، ولكنها لم تنبئه بشيء غير هذا، وأخبرته ماري أن جوليا فارقت زوجها بعد عودتي إلى دنيبروبتروفسك بزمن قليل، ولعلها لم تكن تعرف غير هذا، أو لعلها صدرت إليها أوامر مشددة ألا تبوح بغيره.
وأخذ جرح الفراق المؤلم يلتئم رويدا رويدا، ولكن الآلام الناشئة من سر الفرار الخفي وما كان يحوم حوله من شكوك ظلت تنتابني على الدوام. وحدث في إحدى السنين التي أعقبت ذلك الوقت أن ترامت إلي إشاعة غامضة فحواها أن جوليا ميخائيلفنا تعمل مدرسة في مدرسة في إحدى المقاطعات البعيدة بعد أن أطلقت على نفسها اسما مستعارا، ولكني لم يكن في وسعي أن أتحقق من صدق هذه الشائعة، ولعله كان من القسوة بعد ذلك الوقت الطويل أن نهتك أستار الماضي، أو أن نزبل ما تراكم فوقه من أنقاض على مدى الأيام.
الفصل السابع
انتصار الآلات
وسر أبواي وأخواي من عودتي إلى دنيبروبتروفسك غاية السرور، وأردت ألا أفسد عليهم سرورهم، فأظهرت أنا الآخر سروري لوجودي بينهم، وتطلب هذا مني مجهودا عنيفا؛ لأن ألم فراقي لجوليا كان ينغص علي حياتي كلها، وبدا لي ألا شيء يفرج عني هذا الهم إلا الانهماك في العمل، فألقيت بنفسي في تيار الدرس وأناشيد الحزب ومشروعات المصنع حتى لا أترك لنفسي فسحة من الوقت أكتئب فيها أو آسى على نفسي، وعملت على أن أزيد راتبي من الدولة بإعطاء دروس في الاقتصاد السياسي لبعض الفصول في المعهد الفني.
وكانت أمي لا تفتأ تشكو من حالي هذه وتقول: «إنك يا فيتيا ترهق نفسك بالعمل.» وما من شك في أنها كانت تظن أن هذه الغيرة كلها ليست غيرة عادية خالصة للعمل.
وسكنت في منزلي فنجوت بذلك من متاعب الإقامة في البناء العام المخصص لنوم الطلاب، وكل ما كان هناك من فرق بين هذا البناء ونظيره في خاركوف أنه أكثر منه اضطرابا وأقل راحة، وكنت أنا المشرف الرسمي على المصنع، ومن أجل هذا كانت علاقتي به وبالصناع فيه علاقة حقة وثيقة، واستعدت ما كان بيني وبين المهندسين والمدربين من صداقة قديمة، وأنشأت صداقات جديدة مع رؤساء العمال ومع العمال أنفسهم، وكانت مصانع بتروفسكي-لينين المتحدة تستخدم وقتئذ نحو 35000 عامل، وكان لهذه المصانع شأن عظيم في مشروع الخمس السنين.
Halaman tidak diketahui