ولما أنبئ عمي بطرس بالدرجات التي حصلت عليها في الامتحان النهائي توسل إلي وهو يضحك - ولكنه كان في ضحكه جادا غير هازل - ألا أتخذ والدي المجاهد مثلا لي أحتذيه، بل أن أتخذه هو مثلي الأعلى.
ونادى بأعلى صوته: «تبا لهذه الأعمال، دع العالم يا فيتيا ينجه غيرك مما فيه، وحسبك أن تنجي أنت نفسك، وأقولها لك قالة صريحة: إنك لا تحيا إلا حياة واحدة يجب عليك أن تستمتع بها.»
وأذن لي في الليلة التي اعتزمت العودة فيها إلى بلدي أن أذهب إلى معسكر الغجر لأودع فيه أصدقائي الكثيرين، وحملت لهم معي بعض الهدايا منها لفة من التبغ لوالد سيدمان، وقصبة تدخين لسيدمان نفسه، وأشرطة زاهية لأخواته، وكان فراقي لهم لا يقل عن فراقي لأسرتي، وعدت في صباح اليوم الثاني إلى مسقط رأسي، وبعد بضعة أشهر من ذلك الوقت دخلت المدرسة العليا، واجتمعت أسرتنا في ذلك الوقت لأول مرة، وكان يوجين وقتئذ تلميذا في المدرسة الأولية، أما قنسطنطين فكان في السنة الثانية من المدرسة الثانوية، وخيل إلينا أن حياتنا أصبحت في آخر الأمر حياة سوية منتظمة، فها هو ذا أبي يكسب في الشهر مبلغا يتراوح بين ثمانين ومائة وعشرين من الروبلات، وهو دخل طيب لعامل مثله، وها هما ولداه قد اجتازا جزءا غير قليل من مراحل التعليم.
وكانت أمي أسعد حالا وأبهى طلعة مما شهدتها من قبل، أما أبي - وهو بطبعه رجل عبوس بعض الشيء - فقد كان وجهه الهادئ يخفي تحته مظاهر القلق؛ ذلك أنه كان أكثر منا جميعا إدراكا للسحب القاتمة المتلبدة في سماء الروسيا والتي تنذرها بعاصفة هوجاء.
الفصل الثالث
المجد والجوع
تصرم شتاء 1916م وهو ينذر بانهيار القيصرية الروسية، وكان الإحساس بالكارثة الوشيكة الوقوع يسري في كياننا كله.
ذلك أن أمور الحرب كانت تجري على غير ما نشتهي، وازداد سخط الشعب وأصبح أكثر جهرة وأشد إلحاحا، ولم يعد من الأسرار الخفية أن الجنود يفرون من ميدان القتال جماعات، وأن نظام الجيش آخذ في الانهيار، وحتى في إيكترنوسلاف نفسها امتلأ الجو بالشائعات الرهيبة عن راهب مشئوم فاسد السيرة يدعى رسبوتين، وعن الفساد الخلقي في دوائر عليا، وعن الشغب والاضطرابات طلبا للطعام، وعن وجود أنصار للألمان حول القيصرة، ولم يحاول مدرسونا قط كبح جماح كبار التلاميذ، ومنعهم أن يتحدثوا عن الثورة، وأخذ أصدقاء أبي يتهامسون بأصوات خافتة متوترة عن إثارة «الجماهير».
وكان أبي يعمل طوال اليوم في المصنع، وقلما كان يجد بعد الانتهاء من عمله متسعا من الوقت يستريح فيه أو يغتسل أو يأكل، وكثرت الاجتماعات والمناقشات والتقارير يحملها الرسل من بتروغراد أو كيف، وكثيرا ما كان بيتنا يتخذ في تلك الأيام محطا ينزل فيه الفارون من سيبيريا وغيرها من أقاليم المنفى في أقصى الشمال، وما أكثر ما كنا نحن الأطفال نحجز عن حجرة الاستقبال حيث يجتمع عمال المصانع ذوو الوجوه الكالحة والمفكرون من أهل البلدة يتجادلون ساعات طوالا خلف الأبواب المغلقة.
وذهب والداي في عصر يوم من الأيام ليقابلا صديقا لهما يدعى برامونوف كان قد فر وقتئذ من السجن، وعادا وهما في أشد حالات الاضطراب؛ فقد جاءت والدتي تبكي، وجاء أبي تصطك أسنانه، وكان برامونوف هذا أحد بحارة الطراد بوتمكين الذي كان تمرده وثيق الاتصال بثورة سنة 1905م، ومن أجل ذلك كنا نعده بطلا من أبطال البلاد، وكان إلى هذا إشبين أخي الأصغر، واستطعت فيما بعد أن أجمع شتات الحوادث التي وقعت وأؤلف منها قصة لم تبرح قط من ذاكرتي، بل بقيت فيها رمزا للتضحية.
Halaman tidak diketahui