153

Kesan Kebebasan

آثرت الحرية

Genre-genre

فقال الشرطي في ابتسامة ساخرة: «أوه، أنا لم أقصد إلى مهاجمة أبيك، إنما أردت أن أسرد الواقع فحسب.»

ودام الاستجواب نحو ساعة، وكان كلما سار خطوة ازددت سيطرة على نفسي، إذ كان من الجلي أن ملف أوراقي لم يزل نقيا، ونجوت مرة أخرى، وردت إلي تذكرتي بعدما فرغوا من استجوابي، لكن الإجراءات التي تم بها الاستجواب تركت في نفسي مرارة، فمن الوجهة النظرية كنا نحن الشيوعيين أصحاب السيادة في البلاد، إذ نحن «صفوة الصفوة» من بناة العالم الجديد، أما من الوجهة العملية فقد كنا قطعا من قطع الشطرنج التي لا حول لها ولا قوة، يحركها اللاعبون في جو من النظام الشرطي رسمته مجموعة من قوانين سنها رجال الشرطة أنفسهم لأنفسهم.

وطرد من الحزب ألوف الشيوعيين من أهل المدينة، وحدث مثل ذلك في كل بلد من بلاد الروسيا جميعا، وكان الطرد من الحزب هذه المرة معناه الحبس فورا.

لم يكن المشروع الهندسي الذي حصلت به على إجازتي الدراسية - وقوامه وصف وتصميم لآلة لخراطة الأنابيب، وهى ابتكاري الخالص - لم يكن ذلك المشروع في تقدير الممتحنين ممتازا فحسب، بل ازداد على امتيازه شرفا حين اشترت الحكومة حق الانتفاع به، نعم إن الآلة لم تخرج قط من دائرة الرسم إلى دائرة الواقع، لكنها مع ذلك وضعتني - من الوجهة النظرية على الأقل - في صف المخترعين الفنيين.

ولم أكد أفرغ من الامتحان التحريري حتى جلست لامتحان شفوي أمام لجنة حكومية من الممتحنين، وكان ختام حياتي المدرسية حفلة أقيمت لتكريم المتخرجين، فملأنا بطوننا طعاما وشرابا وأخذنا نغني ونتغنى بالعبارات الشائعة في تمجيد الوطنية السوفيتية، وطفق خطيب بعد خطيب يذكر لنا أننا تلقينا العلم على حساب الأمة، وأن واجبنا الآن هو أن نشرع في رد هذا الدين مائة ضعف بمعاونتنا لمشروع السنوات الخمس لنشيد للحزب مجدا مؤثلا.

وهكذا أصبحت في نهاية الأمر، في النهاية التي طال انتظارها، مهندسا ذا مؤهلات رسمية، وقد كان هذا الهدف منذ سنوات أربع يتبدى لعيني محوطا بهالة من مجد، ولست أدري كيف رأيته الآن وليس يزخرفه من المجد شيء، فقد أظلم هاتيك الهالة التي كان رسمها الخيال، ما رأيته في الريف من أهوال ومن مجاعة كاسحة، وما شهدته في حركة التطهير التي قام بها الحزب، وما أحسسته حولي من موجات التشاؤم، ولئن كان قد تبقى لي قليل من ضوء المجد المرتقب، قليل من ضوء يشوبه الأسى، فقد انمحى هذا القليل بعد أن سمعت من «إلينا» قصتها، وبعد أن علمت بانتحار «أندراي»، وبما كان سائدا في النفوس من يأس وشعور بالعبث، ولعله من هذا اليأس وهذا الشعور بالعبث جاءت قصة «إلينا» وجاء انتحار «أندراي» نتيجة لازمة.

إن أسرة من غمار الشعب كأسرتي لتعد من دواعي فخارها أن يكون من أبنائها مهندس ذو مؤهلات عالية، فتظاهرت بفرح لم أكن أحسه، ولا شك أن أمي نفذت ببصرها خلال ما تقنعت به من فرح مفتعل، لكنها أغضت بدورها وتظاهرت بمثل ما تظاهرت به أنا من علائم السرور، وأما أبي فقد كان يعلم علم اليقين أن الطريق الذي يسلكه مهندس سوفيتي، إنما هو طريق مليء بمواضع الزلل من الوجهة السياسية، لكنه كان رجلا كتوما فطوى نفسه على همه، وأما أخواي «يوجين» و«قنسطنطين» اللذان كانا لا يأبهان بالسياسة، فلم يريا في إجازتي الدراسية إلا فرصة تفتح أمامي طريق التقدم من حيث حالتي الاقتصادية.

وشعرت «إلينا» بزهو مشوب باكتئاب، واستطاعت بما تكنه نحوي من حب وعطف أن تهدئ من اضطراب خواطري، كانت تتوقع لنفسها النقل إلى «خاركوف»، وها أنا ذا أتوقع لنفسي أن أعين في مركز لصهر المعادن بعيد، وكلانا لم يكن بالمستهتر الذي لا يبالي الحوادث، فضلا عما زاد الآصرة بيننا من سلسلة الخطوب التي مرت بنا، فكانت تتأرجح بين الغبطة تارة والأسى طورا، فعلمي بأنها كانت عضوا في الشرطة السرية ظل شبحا يلقي ظله على مباهج حبنا، وعبثا حاولت أن أقتلع هذا الشبح من نفسي.

وأرسلت نسخة من رسالتي في الهندسة التي اجتزت بها الامتحان إلى «الوزير أورزنكدز» وجاءني منه رد عطوف، فقد لبثت مدى أعوام الدراسة متصلا به، حتى أخذت الروابط الرسمية بيننا تتحول شيئا فشيئا إلى صداقة شخصية.

وحدث مرة في عام 1933م أن عرضت رأيا بإقامة معرض سوفيتي دائم للصناعة لا يختلف كثيرا عن المعارض في ألمانيا، وعرضت هذا الرأي في مقالات نشرتها الصحف مصحوبة بصورتي وبثناء من هيئات التحرير على مثل هذا «الابتكار بين البلاشفة»، فأخذت عندئذ أضع للفكرة وصفا مفصلا مدعما بالمصورات الإيضاحية، وأسلمت كل هذا إلى «أورزنكدز»، ولم أعد أسمع شيئا عن مشروعي هذا سوى أن ظهيري من بين حاشية الكرملن قد اغتبط له، وأبلغني هذا الاغتباط على طريقته العاطفية القفقاسية، فأتبعت ذلك المشروع بمشروع آخر شبيه به، وهو اقتراح بإقامة معرض زراعي، فلقي هذا الاقتراح حظا أسعد من زميله إذ رأيته نافذا بالفعل بعد حين، ولو أن فضلي في ابتكار الفكرة لم يكن له ذكر على الإطلاق.

Halaman tidak diketahui