صاح الضابط في وجهي قائلا: «أيتها المواطنة، ليس هذا المكان مصيفا ولا مصحة يرتادها المستشفون، فيكفيهم ما نعطيهم إياه من طعام وثياب، إنهم أعداء الدولة.»
جلسنا في الغرفة الصغيرة القذرة انتظارا ل «سرجي» فرأيت على الجدران صورة عليها بقع من الذباب ل «ستالين» و«دزرزنسكي» و«ياجودا»، كما رأيت شريطا مهلهلا من قماشة راية كتب عليه «البعث عن طريق العمل»، ظللت أرقب من النافذة فما لبثت أن شهدت رجلا كهلا نحيلا يدنو من الغرفة ووراءه حارس شهر مسدسه، وكان الرجل ذا لحية مشعثة بيضاء ورأسه يشتعل بالشيب، كما كان جسده ذاويا يفزع الرائي لرؤيته وعلى إحدى عينيه رباط من خرقة قذرة، وبالجملة كان كأنما خرج لتوه من أرض العذاب، فتحرك قلبي لهذا المخلوق الذي يبعث في النفس الحزن ودرت ببصري نحو الضابط.
قلت: «هل ترى أيها الرفيق ذلك الرجل الكهل؟ أرجوك أن تعطيه هذه العلبة من السجائر.»
كان ذلك كل ما أستطيعه لأعبر به عن عطفي على ذلك المسكين، فانفجر الضابط مقهقها وأخذ يضرب فخذه بكفه من فرط السرور. - «جميل والله! أتسخرين مني أم أنك حقا لا تعرفين زوجك إذا ما رأيته؟»
فجمدت من الجزع، وانفتح الباب ودخل الكهل، فلما أن دنا مني تبينت أنه «سرجي» حقيقة، لكنه محطم مسن يوشك ألا يكون إنسانا من البشر، كيف أصدق هذا الذي أرى؟ لكني ذهبت إليه وضممته بذراعي وهمست قائلة: «سريوزا يا حبيبي، سريوزا يا مسكين.»
نظر إلي مشدوها وارتجف بالعاطفة وجهه الذي شاه من العذاب، وما هو إلا أن جثا على ركبتيه وأخذ ينهنه بالبكاء ويقبل ثوبي وركبتي ويدي، فهدأت من نفسه وأجلسته على الدكة بجواري، وكان ما سمح لي به عشر دقائق لا تزيد، بعد رحلة قطعت بها نصف البلاد الروسية، وأنذرونا ألا يدور بيننا حديث في غير الشئون الخاصة، فما كدنا نأخذ في الحديث حتى صاح بنا صائح: «انتهى الزمن، بقيت دقيقة واحدة للوداع.»
همس لي «سرجي» المسكين: «إلينا يا عزيزتي، أنقذيني لو كان ذلك في حدود المستطاع، الحياة هنا أبشع مما يصوره الخيال لكائن من كان خارج هذا المكان، إنها أسوأ مما كان يصوره لي الوهم، إنهم يعاملوننا معاملة العجماوات لا معاملة الآدميين، ويلقى المسجونون حتوفهم كل يوم كأنهم الذباب، هم يضربوننا ويميتوننا من جوع، «إلينا!» «إلينا» أنقذيني، يستحيل أن ينقضي علي عام آخر في هذا الجحيم وأنا حي من الأحياء.»
فصاح به الحارس: «اسكت يا وغد!»
وعدته أن أبذل وسعي، وعدت إلى خاركوف يملأ ناظري هذا المشهد المؤلم لحطام إنسان كان فيما مضى زوجي، وها هنا زال عني كل أثر للتردد، فما كان لي أن أدعه هناك لأشبع كبريائي وأنقذ ما لي من طهارة الأخلاق، فذهبت إلى الرفيق «ت» وتمت بيننا الصفقة، قبلت عبودية الشرطة السرية ثمنا أشتري به حرية «سرجي». - «أؤكد لك تأكيدا تؤيده كلمة الشرف أقولها بنفسي، إنك يا «إلينا بتروفنا» لن تكلفي عملا مما عسى أن يؤدي إلى «دماء ودموع» - على حد تعبيرك ذات يوم - لكنك لقاء ذلك ستدفعين حياتك ثمنا إذا ما كشفت لأحد بأقل تلميح عن علاقتك بنا.»
فأجبته قائلة: «ضع دائما نصب عينيك أنني لن أنقذ زوجي بحيث أبعث بزوج امرأة أخرى أو أبيها أو أخيها إلى مثل هذا القضاء، إنك لتعلم علم اليقين أن «سرجي» بريء وأن الكثرة الغالبة ممن زج بهم في ذلك المأزق الجهنمي أبرياء، وسآذن لك بقتلي قبل أن آذن لنفسي بالمساهمة في مثل هذا الظلم الصارخ، وكذلك أحتفظ لنفسي بحق الخروج من هذا العمل حين أشاء، ولا بد أن آخذ تعهدا مكتوبا بذلك.» - «أقدر ما تقولين، وها أنا ذا قد أعطيتك وعدا بذلك أصونه بشرفي، لكنني لا أستطيع أن أتعهد لك بشيء مكتوب، ثقي بصدق وعدي، فسيكون لك حق الانسحاب، والآن فلنوقع الصفقة بيننا، فخذي هذه الاستمارة واملئيها.»
Halaman tidak diketahui