فتنهدت باكية وأخذت تقول: «رباه يا رباه، ماذا أنا صانعة، ماذا أنا صانعة؟»
ولمعت السماء بالبرق، وأخذت قطرات المطر الكبيرة تسقط من السماء، فلجأنا إلى كوخ سماك مهجور كان منا على مقربة، وفي ذلك الظلام الذي أخذ يزداد حلوكا، وعلى كومة من الدريس اليانع العبق، قصت علي «إلينا» قصة سرها.
قالت: «أحبك حبا لا أستطيع معه أن أضحي برفقتك، فحاول يا حبيب الفؤاد أن تنصت إلى حديثي بعقل فسيح الأفق، سأنبئك بما لم أنبئ به إنسانا آخر، بل بما لم أنبئ به أمي، ودع عنك زوجي المسكين، فإذا ما سمعت قصتي حتى ختامها، فلك بعد ذلك أن تقرر لنفسك طريقا.»
وها هي ذي قصة «إلينا» عن حياتها، أسجلها بألفاظها كما بقيت في الذاكرة. «كنا نعيش في «كيف»، وكانت أمي فيما مضى تشتغل بالتدريس، كما كان أبي أستاذا للهندسة معروفا بين الناس، يشتغل في شركة في «كيف» ويكسب مالا كثيرا، وكنت ابنة والدي الوحيدة، فنعمت بطفولة سعيدة، لم أحرم خلالها شيئا، وتعلمت عزف الموسيقى واللغات ونشأت خلية البال من كل هم، وكان الرسم هوايتي التي آثرتها على كل شيء سواها.
وكان لجيراننا ابن هو «سرجي» يطلب العلم في معهد الفنون الهندسية في «خاركوف»، وكان يقضي عطلة الصيف بين ذوبه فتصادقنا، ثم أثمرت الصداقة حبا حين تقدمت بي السن، فتقدم إلى خطبتي ولم أكن قد أربيت على السابعة عشرة إلا بأمد قصير، فقبلت زواجه وانتقلت معه إلى «خاركوف» حيث هيأت لي الفرصة أن أتابع الخطى نحو ما أطمح إليه من هدف، فدخلت معهد الفن الجميل وفيه تخرجت عام 1930م.
ولا شك أنك لا تزال تذكر أن هذا هو العام الذي اتهم فيه كثير من المهندسين والإخصائيين بالتخريب، ولقد حدث أني كنت في زيارة أهلي في «كيف» حين وصل ضباط الشرطة السياسية وألقوا القبض على أبي، وفتشوا كل ما في الدار فمزقوا الصور والأرائك والحشايا، ولم يجدوا بالطبع شيئا، والحق أن من العجائب أن يدور في خلد إنسان عن أبي وهو الرجل الوديع البحاثة أنه ممن يعملون على التخريب، وقد كان اتهامه هذا من الغرابة بحيث تعزينا - أمي وأنا - بفكرة أنه لا محالة لن يلبث حتى يطلق سراحه.
وكان من الطبيعي أن أظل في «كيف» لأعاون أمي حتى تنقشع عنها تلك المحنة، فحياتنا السعيدة قد بلغت ختامها، ولم ندر قط ماذا عسى أن تكون التهمة الموجهة إلى أبي، ولم يأذنوا لنا بزيارته، ولبثت أسبوعا بعد أسبوع، ثم شهرا في إثر شهر، أذهب كل مساء إلى باب السجن لأبعث إليه بلفائف الطعام، وكنت كل مرة أقف ساعات في صف المنتظرات وهن مئات من البائسات الأخريات، وقد يهطل على رءوسنا المطر تارة، ويسفعنا الثلج طورا، وكذلك كنت كثيرا ما أتردد على مكاتب الشرطة السياسية خارج السجن، يحدوني رجاء اليائسة في معاونة أبيها.
وقصدت إلى مكتب الشرطة السياسية ذات يوم، فطلب إلي أن أدخل مكتب الرئيس، وعجبت فيم أرسل الرئيس في طلبي، ولما أن دخلت وجدت هناك رجلا في منتصف العمر لطيف الترحيب باعثا على احترامه، فأخذت ألتمس العفو عن أبي وأخذ يصغي، ثم قال: «أصغيت إليك فأصغي أنت الآن إلي يا «إلينا بتروفنا» أنت فتاة رشيقة بل أنت ربة جمال، بل لك فوق جمالك ثقافة واتزان، وتلك هبات قد تكون ذات نفع عظيم لبلادنا، ولست بحاجة إلى القول بأنها قد تنفعك وتنفع أباك، ففي مستطاعنا أن نعينك على شرط أن تبادلينا معونة بمعونة، ولن أضيف على ما قلته شيئا، فلا حاجة بي إلى ذلك؛ لأني ألمح فيك ذكاء وفطنة، كلا، لا تعبسي ولا تجزعي، فإن ما أقترحه عليك ليس في خسة الحياة نفسها، فأنا لا أطالبك بمضاجعة رجل في فراشه، وإن من أعواننا لنساء نطلب إليهن ذلك، ومنهن أفراد بلغن في مدينتنا منزلة عالية من التقدير، لكنك ستخدميننا دون أن يمس طهارتك شيء أو ينال من شرفك نائل، سنطلب إليك أن تلاقي من الناس من لا يسوءك أن تلاقيهم، حيث تسمعين عنهم كثيرا مما تريد حكومة بلادنا أن تحيط به علما، وطبيعي أنك ستؤجرين على عملك أحسن الأجر، وسنحميك وسنحمي معك من تحبين.»
وقدم إلي سيجارة اعتذرت عن عدم أخذها، فأخرج من درج مكتبه صندوقا من الحلوى وعرض أن آخذ منه ما شئت، فنظرت إليه نظرة لا تنم عن سذاجة.
ثم قلت: «بعبارة أخرى: كل ما تريدونني أن أصنعه هو أن أقدم لكم طائفة من الأنفس البشرية، وربما كان من أقدم لكم أصدقاء أبي أو معارفه، فأتيح لكم بذلك أن تطبخوا عددا آخر من القضايا التي تستثير اهتمام الناس؟ فإذا فعلت ذلك أطلقتم سراح أبي، فهل أصبت في الإفصاح عما تريد؟ ذلك ما تريده وما ترشوني من أجله ببضع قطع من الحلوى لعلي أستجيب؟»
Halaman tidak diketahui