Atha al-Da'wah al-Wahhabiyyah fi al-Islah al-Dini wa al-Umrani fi Jazirat al-Arab wa Ghairiha
أثر الدعوة الوهابية في الإصلاح الديني والعمراني في جزيرة العرب وغيرها
Penyiasat
*
Penerbit
*
Nombor Edisi
١٣٥٤
Genre-genre
مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين. والعاقبة للمتقين. ولا عدوان إلا على الظالمين. والصلاة والسلام الأتمان الأكملان الطيبان الطاهران على سيد الأنبياء وأشرف المرسلين، وأفضل الخلق أجمعين: محمد عبد الله ورسوله، الذي ختم الله به الرسالة، فلا نبي بعده، وختم بكتابه الكتب، فهو المرجع والموئل لكل من طلب الهداية إلى الصراط المستقيم، وجعل شرعته آخر الشرائع وأقومها، لأنها أكملها وأجمعها لكل علم وهدى، وخلق، واعتقاد وعمل يحبه الله تعالى، ويبلغ صاحبه به أعلى الدرجات، وأرفع منازل السعادة والفوز في الدنيا والآخرة، والشقي كل الشقاء من تنكب سبيله، واتخذ إلهه هواه، وعمدته الرأي والاستحسان وحجته ما قال فلان، وما اخترع علان، فإن كل ذلك لا يغني من الحق شيئا، وهو بعد لا ينجي من هول سؤال القبر، وما بعده من مواقف الحساب التي لا ينجي منها إلا القرآن: إيمانا وعلما وعملا والرسول ﷺ معرفة، وحبا خالصا، وطاعة واتباعا.
اللهم اجعلنا بفضلك من أولئك الناجين، وآتنا هذه الحجة القويمة، واجعل لنا منها يوم القيامة نورا بين أيدينا وبأيماننا، وأتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير.
"أما بعد" فهذه نبذة لطيفة في بيان حقيقة الدعوة الوهابية، وإمامها وشيعتها وأنصارها، أقدمها في هذه الورقات، راجيا أن أكون قد وفقت
1 / 1
لإزاحة حجب الأوهام والأباطيل، والأخطاء، والأكاذيب عن هذه الدعوة وعن إمامها وشيعتها وأنصارها، حتى يعرفها العالم الإسلامي على حقيقتها، ويروها في لونها الحقيقي مجردة عن الزغل، والغش والخداع
وإنما حملني على ذلك، كثرة ما رأيت وما سمعت من تخبط كثير من الناس في شأنها، ما بين مفرط، ومقصر.
وإن من شر ما منى به المسلمون الجرأة على إلقاء القول بدون تحقق، ورمي التهم الشنيعة في وجوه الأبرياء بدون تروٍّ ولا تثبت، ولقد غلب هذا الخلق الذميم على بعض المتعلمينٍ حتى أصبحوا يقلدون العامة في كل شائعة، ويطلقون ألسنتهم بما لا يليق من القول على غير علم ولا بصيرة، وبلا تفكير في عاقبة ذلك ونتيجته في الدنيا والآخرة، ولا واقفين عند قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ - وفي قراءةِ: فتثبتوا- ﴿أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات:٦] وقوله تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [قّ:١٨] وقول النبي ﷺ لمعاذ بن جبل فيما رواه أحمد والترمذي والنسائي "أمسك عليك لسانك"، فقال: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: "ثكلتك أمك. وهل يَكُبُّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم" وقوله ﷺ "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرقين" رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.
أسال الله العافية من كل هذا، وأن يقينا شر أنفسنا وسيئات أعمالنا، ويجعلنا بمنه وكرمه من المؤمنين المخلصين الفائزين في الدنيا والآخرة.
1 / 2
وأن يوفق المسلمين جميعا ملوكا وأمراء، وزعماء، وقادة، وعلماء، وعامة في مشارق الأرض ومغاربها: إلى توحيد كلمتهم، وربط قلوبهم برباط الإيمان الخالص، والتوحيد النقي الصافي، وأن يعيذهم من كل أنواع الشرك وعمله ومن كل ما يقرب إلى النار.
وإنما أتاح لي هذه الفرصة، ومهد لي في نشر هذه الكلمة: أن تحطمت عن القلوب قيود التقليد الأعمى والعصبية، وخلصت الأفكار إلى جو البحث الصحيح في سرور واطمئنان، حين ألقيت مقاليد الرياسة الدينية إلى رجل العصر، ومقيل العلم من كبوته، قوي القلب والنفس، ماضي العزيمة، صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي، شيخ الأزهر الحالي، أطال الله أيام رياسته، ليحقق للأمة آمالا للأزهر والإسلام تعيد إليهما عزهما المسلوب وشرفهما المضيع، وليتضح للناس نور الهداية الإسلامية في ظل نصير العلم والدين، الناهض بأمته إلى أعلى درجات الإنسانية الكاملة، صاحب الجلالة ملك مصر المفدى، الملك فؤاد الأول، أدام الله نصره وتأييده صالحا مصلحا، وخادمًا للإسلام أمينا، وأقر عين جلالته بولي عهده صاحب السمو الملكي أمير الصعيد الأمير فاروق.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وصحبه الخيرة الأبرار، وآل بيته الطيبين الأطهار.
القاهرة في العاشر من ذي القعدة سنة ١٣٥٤.
وكتبه
محمد حامد الفقي
رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية بالقطر المصري
1 / 3
مدخل
...
١- الوهابية: نسبة إلى الإمام المصلح، شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب مجدد القرن الثاني عشر، وهي نسبة على غير القياس العربي فلقد كان الصحيح أن يقال: "المحمدية" إذ أن اسم صاحب هذه الدعوة، والقائم بها هو "محمد" لا "عبد الوهاب" على أننا نتجاوز عن هذا الخطأ العربي، ونماشي العامة الآن، لننظر كيف، ولماذا أطلق هذا اللقب على هذه الدعوة، والقائمين بها؟ علّنا نقف بالقارئ على بعض السر الذي دعا إلى استعماله، ثم إلى شيوعه في الأقطار العربية وغيرها، إلا نجدا، وما يتصل بها. فإن من أعجب العجب أنك لا تجد لهذا اللقب أثرا فيها، ولا عند النجديين النازحين عنها إلى غيرها للتجارة، أو الإقامة والاستيطان، لا بل الأعجب من هذا أنهم يستنكرون ذلك ممن يخاطبهم به، أو ينسبهم إليه وأنهم جميعا من ملكهم، وأمرائهم، ومشايخهم- الذين أكثرهم من آل الشيخ محمد، وتجارهم وعامتهم يطلقون على أنفسهم، من حيث الوطن والقطر "نجديين" ومن حيث المذهب والعقيدة "حنابلة".
٢- وإنهم لحنابلة متعصبون لمذهب الإمام أحمد في فروعه، ككل أتباع المذاهب الأخرى، فهم لا يدّعون – لا بالقول، ولا بالكتابة-: أن الشيخ ابن عبد الوهاب أتى بمذهب جديد، ولا اخترع علما غير ما كان عند السلف الصالح، وإنما كان عمله وجهاده لإحياء العمل بالدين الصحيح، وإرجاع الناس إلى ما قرره القرآن في توحيد الآلهية والعبادة لله وحده: ذلًا وخضوعا، ودعاء ونذرا، وحلفا وتوكلا، وطاعة لشرائعه، وفي توحيد الأسماء والصفات، فيؤمن بآياتها كما وردت، لا يحرف ولا يؤول، ولا
1 / 4
يشبه ولا يمثل، على ما ورد في لفظ القرآن العربي المبين وما جاء عن الرسول ﷺ، وما كان عليه الصحابة وتابعوهم والأئمة المهتدون من السلف والخلف رضوان الله عليهم في كل ذلك، وأن تحقيق شهادة "أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله" لا يتم على وجهه الصحيح إلا بهذا.
٣- اجلس إلى أي نجدي في أي مكان يكون. مهما كان مركزه، ومهما بلغت معلوماته: من الملك إلى أقل تاجر، ومن شيخ القضاة إلى أبسط عامي، فإنك لا تكاد تجلس إليه حتى يبدأ في الحديث عن الشيخ محمد، وعن مؤلفات الشيخ محمد، وجهاد الشيخ محمد، وما قام به من إصلاح، وما أنقذ الناس به من الشرك والوثنية إلى التوحيد والهداية الإسلامية. وهم في كل هذا لا يجري على ألسنتهم إلا "شيخ الإسلام محمد" أو "الشيخ" فقط، أو "آل الشيخ" وقَل أن تسمع باسم والده "عبد الوهاب".
٤- من هذا نعلم أن منبت هذا اللقب وشيوعه كان ولا بد بعيدًا عن البيئات والأوساط النجدية قديما وحديثا
٥- إذن فمن أين نشأ هذا اللقب. وأين نبت، وكيف شاع هذا الشيوع؟
٦ - يغلب على ظني أنه نشأ في الأقطار والأوساط التي كانت تبذل أقصى جهدها لحرب هذه الدعوة والقضاء عليها، في أيام حروبها الأولى، حين كان الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، وحين كان ولده سعود الكبير ينشران من جناحي هذه الدعوة، ويبسطان من نفوذها على الجزيرة وما حولها، إلى أطراف العراق والشام. كما سيجئ بيان ذلك إن شاء الله.
1 / 5
٧- فبدهي أنه كان من أعظم الأسلحة، وأنكى ما يستخدمه قادة هذه الحروب والمضرمون لنارها: الدعاية السياسية بالصاق أشنع التهم، وأقبح الجرائم زورا وبهتانا- بمؤسسها وشيعته فلو أنهم أطلقوا عليها "المحمدية" لكان ذلك لقبا جميلا مشوقا. فعمدوا إلى إطلاق لقب "وهابي" لتنفير الناس من هذه الجماعة، وتشويه سمعتهم الطيبة، حتى يكثر أعداؤهم، ويقل أنصارهم وبذلك يظفر أولئك المحاربون بهم، ويتقلص ظل دعوتهم التي بهرت بجمالها عقول الناس، وأخذت تمتد بسرعة عظيمة، حتى أصبح لها من الاتباع والأنصار من لا يحصون كثرة. وكانوا في القوة بحيث هزموا جيوش الدولة العثمانية العظيمة في مواقع عدة. وما زالوا بها حتى أزالوا سلطانها عن الحرمين الشريفين.
٨ - والسر في هذا الامتداد، وهذه القوة يرجع إلى جمال هذه الدعوة، وبساطتها، وأنها في غير حاجة إلى أدلة جديدة ولا براهين مخترعة، فإنها تعتمد على صريح القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية الكريمة. والقرآن بين أظهر الناس –محفوظا ومكتوبا- قائم بحمد الله لم يذهب، ولكن العقول هي التي ذهبت عنه، فحين وُجهت إليه توجهت، وحين كشف لها عن نوره أقبلت عليه تقتبس منه الهداية والرحمة.
٩- وكان من أهم ما خدم به الشيخ ابن عبد الوهاب الناس: أن رفع عن قلوبهم غشاوة الجهل، وكابوس التقليد الأعمى لكل ناعق على غير هدى ولا بصيرة.
١٠ - فحارب الأمية بكل ما استطاع من قوة، وكان يلزم كل أتباعه
1 / 6
تعلم القراءة والكتابة مهما كانت سنه، ومهما كانت منزلته، حتى كان الأمراء يقرؤون مثل بقية الناس. فصار منهم العلماء المدرسون كالإمام سعود الكبير، فإنه كان له درس يلقيه في التوحيد، فوق أعمال الإمارة.
١١ - وكان تعليمه إياهم الكتابة في القرآن وحفظه، كما يصنع مع صبية المكاتب، ثم وضع الرسائل السهلة العبارة، القريبة إلى عقول البسطاء في بيان التوحيد وما يحققه ويقويه، وما يهدمه وينقضه: من الاعتقاد والقول والعمل، وكان كل اعتماده في مؤلفاته- في الرسائل الصغيرة، والكتب الكبيرة، في عقيدة التوحيد وغيرها-: على الكتاب العزيز والسنة الصحيحة، وكان يلزم الناس أن يحفظوا القرآن ثم يطالعوا هذه الرسائل ويحفظوها، فكان ذلك من أقوى الأسباب لانتشار هذه الدعوة وسرعة انتقالها إلى ما وصلت إليه من بقاع الأرض، وذلك طبعا كان يستند إلى سيف آل سعود ونصرتهم.
١٢ - وإني أسوق إليك نبذا بسيطة من كلام الشيخ ﵀ لترى فيها تلك الروح القوية والطريقة البسيطة السهلة التي كانت من أنجع الطرق في نشر التوحيد الصحيح.
١٣ - إذ يقول في رسالة الثلاثة الأصول: "اعلم رحمك الله أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل"الأولى" العلم وهو معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة "الثانية" العمل به "الثالثة" الدعوة إليه "الرابعة" الصبر على الأذى فيه. والدليل قوله تعالى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ﴿وَالْعَصْر إِنَّ الْإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ
1 / 7
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر:١-٣] إلى أن قال: "اعلم أرشدك الله لطاعته أن الحنيفية ملة إبراهيم: أن تعبد الله وحده مخلصا له الدين. وبذلك أمر الله جميع الناس. قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦] ومعنى "يعبدوني" يوحدوني. وأعظم ما أمر الله به التوحيد، وهو إفراد الله بالعبادة. وأعظم ما نهى عنه الشرك، وهو دعوة غير الله معه. والدليل قوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء: ٣٦] فإذا قيل لك: ما الأصول التي يجب على الإنسان معرفتها؟ فقل: معرفة العبد ربه، ودينه، ونبيه محمد ﷺ إلى أن قال: وأنواع العبادة التي أمر الله بها: مثل الإسلام، والإيمان، والإحسان. ومنه الدعاء والخوف والرجاء، والتوكل، والرغبة، والرهبة، والخشوع، والخشية، والإنابة، والاستعانة، والاستعاذة، والاستغاثة، والذبح، والنذر، وغير ذلك من العبادة التي أمر الله بها، كلها لله"
١٤ - ثم ساق الأدلة من القرآن والسنة على كل نوع من هذه الأنواع، ثم بين الأصلين الآخرين: معرفة حقيقة الإسلام، ثم معرفة النبي ﷺ بنبذة لطيفة، تصور النبي ﷺ عند العامي صورة تملأ نفسه بحبه وتعظيمه وطاعته، وهذه الرسالة يحرص عليها أهل نجد جد الحرص، ولا تلقى نجديا كبيرا ولا صغيرا إلا وهو يحفظها عن ظهر قلب، ومن النقص الكبير عدم حفظها
١٥ - وقال الشيخ في رسالة القواعد الأربعة "اعلم أن العبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمى صلاة إلا مع الطهارة فإذا دخل
1 / 8
الشرك في العبادة فسدت، كالحدث إذا دخل في الطهارة. فإذا عرفت أن الشرك إذا خالط العبادة أفسدها وأحبط العمل، وصار صاحبه من الخالدين في النار عرفت أن أهم ما عليك هو معرفة ذلك، لعل الله أن يخلصك من هذه الشبكة. وذلك بمعرفة أربع قواعد، ذكرها الله في كتابه: "الأولى" أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله ﷺ كانوا مقرين بأن الله تعالى هو الخالق الرزاق المدبر، وأن ذلك لم يدخلهم في الإسلام – ثم ساق الدليل على ذلك من القرآن "القاعدة الثانية" أنهم يقولون: ما دعوناهم وتوجهنا إليهم إلا لطلب القربة والشفاعة عند الله، ثم ذكر الدليل على كل من الشفاعة والتقرب من آيات القرآن "القاعدة الثالثة" أن النبي ﷺ ظهر على أناس متفرقين في عباداتهم: منهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين. ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار. ومنهم من يعبد الشمس والقمر. فقاتلهم رسول الله ﷺ ولم يفرق بينهم، ثم ساق الدليل أيضا على ذلك من القرآن الكريم "القاعدة الرابعة" أن مشركي زماننا أغلظ شركا من الأولين، لأن الأولين كانوا يشركون في الرخاء، ويخلصون في الشدة ومشركو زماننا شركهم دائم في الرخاء والشدة. والدليل قوله تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ [العنكبوت:٦٥]
"الأصل الأول" إخلاص الدين لله تعالى وحده لا شريك له، وبيان ضده الذي هو الشرك بالله، وكون أكثر القرآن في بيان هذا الأصل من وجوه شتى بكلام يفهمه أبلد العامة، ثم صار على أكثر الأمة ما صار: أظهر الشيطان الإخلاص في صورة تنقص الصالحين والتقصير في
1 / 9
حقوقهم. وأظهر لهم الشرك بالله في صورة محبة الصالحين وأتباعهم
"الأصل الثاني" أمر الله بالاجتماع في الدين، ونهى عن التفرق، وبين الله هذا بيانا شافيا تفهمه العوام، ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم، فهلكوا، ويزيده وضوحا ما وردت به السنة في ذلك، ثم صار الأمر بالناس إلى أن أصبح الافتراق في الدين هو أهدى السبل إلى الله، وأعظمها عنده ثوابا، وصار الأمر بالرجوع إلى الكتاب والسنة والاجتماع على ذلك لا يقوله إلا زنديق أو مجنون.
"الأصل الثالث" من تمام الاجتماع: السمع والطاعة لمن تأمر علينا ولو كان عبدا حبشيا، فبين النبي ﷺ هذا بكل نوع من البيان شرعا وقدرا، ثم صار هذا الأمر مجهولا عند أكثر من يدعي العلم، فكيف العمل به؟
"الأصل الرابع" بيان العلم والعلماء، والفقه والفقهاء، وبيان من تشبه بهم، وليس منهم، وقد بين الله تعالى هذا الأصل بحكاية ما كان عليه بنو إسرائيل في صورة التشنيع والتوبيخ في أول سورة البقرة من قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ [البقرة:٤٠] إلى الآية ١٣٣، وغير هذا من الآيات في ذم الجهل والجهلاء، ومدح العلم والعلماء، وقد صرح النبي ﷺ بكلام كثير في ذلك يفهمه العامي البليد، فضلا عن أهل العلم، ثم صار هذا من أغرب الأشياء، وصار العلم والفقه هو البدع والضلالات والآراء
1 / 10
والاختلافات، وخيار ما عندهم لَبس الحق بالباطل، وصار العلم الذي فرضه الله على الخلق ومدحه وأثنى على أهله، وهو معرفة الله بأسمائه وصفاته وحقوقه الخالصة، ومعرفة دينه، وأنبيائه، ورسله وثوابه، وعقابه وجنته، وناره، لا يتفوه به إلا من يصفونه بأنه زنديق أو مجنون، وصار كل من أنكره وعاداه وصنف في التحذير منه هو العالم الفقيه.
"الأصل الخامس" بيان الله ﷾ لأوليائه. وتفريقه بينهم وبين المتشبهين بهم من أعداء الله المنافقين والفجار، ويكفي في هذا آيات آل عمران: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران:٣١] وفي سورة المائدة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ [المائدة: ٥٤، ٥٥] وفي سورة يونس: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [يونس:٦٢] . ثم صار الأمر عند أكثر من يدعي العلم وهداية الخلق وحفظ الشرع: أن الأولياء لا يكونون إلا من المهابيل والمجاذيب، التاركين للصلاة، المضيعين لحدود الله، ومن كان على شاكلتهم من الطبَّالين والزمارين، والرقاصين الذين اتخذوا آيات الله هزوًا، واتخذوا دينهم لعبا ولهوًا، واحتفالا بموالد الموتى وأعيادهم الجاهلية مما أصبح معلوما لكل ذي عينين
"الأصل السادس" رد السنة السيئة التي وضعها الشيطان في ترك
1 / 11
القرآن والسنة، واتباع الآراء والأهواء المتفرقة المختلفة بدعوى أن القرآن والسنة لا يعرفهما إلا المجتهد المطلق، ثم اخترعوا للمجتهد شروطا وأوصافا لعلها لا توجد في أبي بكر وعمر. وإذا لم يجتمع في الإنسان هذه الأوصاف المستحيلة كان فرضا عليه حتما الإعراض عن القرآن والحديث، وأخذ دينه من المتون والشروح والحواشي، ومن طلب الهدى من القرآن والحديث فهو إما زنديق أو مجنون، سبحانك هذا بهتان عظيم، والأمر برد هذه الشبهة الملعونة، وبيان وجوه ردها لا يكاد يحصى من القرآن الكريم والسنة النبوية، حتى أصبح من ضروريات الدين ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الجاثية: من الآية٢٦] ﴿لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ﴾ [يّس:٧-١١]
١٨ -وفي رسالة أخرى يقول الشيخ ﵀:-
"اعلم أن نواقض الإسلام عشرة "الأول" الشرك في عبادة الله تعالى. قال الله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا﴾ [النساء:١١٦] وقال ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ [المائدة: من الآية٧٢] ومنه الذبح لغير الله كمن يذبح للجن أو للقبر، أو لنحو ذلك
"الثاني" من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة
1 / 12
ويستغيث بهم، ويستمد مددهم ويتوكل عليهم
"الثالث" من لم يكفر المشركين الذين يفعلون ما تقدم، أو يشك في كفرهم أو صحح مذهبهم.
"الرابع" من اعتقد أن هدى غير النبي ﷺ أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذين يفضلون حكم الطواغيت على حكم الله ورسوله. وقوانين البشر على ما أنزل الله.
"الخامس" من أبغض شيئا مما جاء به النبي ﷺ. ولو عمل به.
"السادس" من استهزأ بشيء من دين الرسول ﷺ وما ذكر من ثواب أو عقاب. والدليل قوله تعالى ﴿قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ؟ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [التوبة: ٦٦]
"السابع" السحر ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به كفر والدليل قوله تعالى ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ﴾ [البقرة: ١٠٢]
"الثامن" مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة: ٥١]
"التاسع" من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد ﷺ، للعمل بمنام أو ما يدّعونه من مكاشفة أو غير ذلك. فهو كافر
"العاشر" الإعراض عن دين الله تعالى: لا يتعلمه ولا يعمل به. والدليل قوله تعالى ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾ [السجدة:٢٢]
ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف، إلا المكره
1 / 13
وكلها من أعظم ما يكون خطرا، وأكثر ما يكون وقوعا، فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه، نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلم.
١٨- وقال في كتاب كشف الشبهات:-
"اعلم رحمك الله أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة، وهو دين الرسل الذين أرسلهم إلى عباده، فأولهم نوح ﵇، أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين وَدًَّا، وسُواعَ، وَيغُوث، وَيَعُوق، ونَسْرًا.
وآخر الرسل محمد ﷺ وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين أرسله الله إلى قوم يتعبدون، ويحجون، ويتصدقون، ويذكرون الله، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله، ويقولون: نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده: مثل الملائكة وعيسى وأمه مريم، وأناس غيرهم من الصالحين وغير الصالحين، فبعث الله محمدًا ﷺ يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم، ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد، وهو محض حق الله، لا يصلح منه شيء لغير الله.
١٩- ثم أخذ الشيخ يشرح هذه القاعدة ويبسطها بذكر الآيات القرآنية التي فيها حكاية اعتراف المشركين بأن الله هو خالقهم ورازقهم وحده، وأنه سبحانه لم يقبل ذلك منهم حتى يكون مقرونا بتوحيد الالهية الذي هو إفراد العبادة والدعاء، والذبح، والنذر، والحلف لله وحده، وضرب الأمثال لذلك بما عليه أكثر الناس اليوم، وذكر اعتراضاتهم وأجاب عنها واحدا واحدا، بعبارة سهلة لطيفة، قريبة إلى عقل العامي وفكره.
1 / 14
٢٠- ثم وضع كتاب التوحيد أبسط من هذه وأوسع، ذكر فيه أنواع التوحيد بقسميه: توحيد العلم والمعرفة، وتوحيد الإرادة والمحبة والتعظيم والعبادة، وذكر في توحيد الأسماء والصفات جملا قيمة مؤيدة بآيات الذكر الحكيم والأحاديث النبوية والصريحة في استواء الله على عرشه، وعلوه على خلقه وأمثال هذه الصفات على ما يليق به سبحانه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١] وذكر في هذا الكتاب نواقض التوحيد من السحر، والتمائم وعبادة الجن، وغير ذلك.
٢١- ثم وضع لبيان أنواع الشرك حتى يحذرها المؤمن-: كتاب مسائل الجاهلية، ذكر فيه مائة وثمانية وعشرين مسألة، مما كان معروفا من أعمال أهل الجاهلية، وهدمه الإسلام، ثم رجع الناس إليه، معرضين عما في القرآن والسنة من آيات التحذير منه، لكنهم أحيوه بأسماء أخرى اخترعتها لهم الشياطين، ليلبسوا عليهم دينهم، ويفتنوهم عن عقيدتهم الصحيحة، التي نزل بها القرآن وشرحها النبي ﵊، وغير ذلك من الكتب والرسائل التي كان يبعث بها إلى الأمراء والعلماء، إما ابتداء، وإما جوابا على أسئلة كانوا يوردونها عليه.
٢٢- من هذا يتبين واضحا حقيقة هذه الدعوة، وأنها أولى أن تسمى الدعوة "السلفية المحمدية" لأنها لم تخرج في جملتها وتفصيلها عن الإسلام الصحيح الذي بعث به جميع الأنبياء، وخصوصا خاتمهم وأشرفهم سيدنا محمد ﷺ.
٢٣- وإن أهم ما كان يعنى به الشيخ محمد في دعوته هو توحيد الآلهية والعبادة الذي هو حق الله تعالى على عباده شكرًا منهم لله ﷾ على
1 / 15
ما أنعم عليهم بصفة ربوبيته، فإنه ربهم وحده باعتقادهم وفي الواقع، فالواجب أن يكون هو معبودهم وحده، كما قال ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذريات:٥٦-٥٨] .
٢٤- ولقد خلق الله عباده على الفطرة حنفاء يعرفون ربهم فيعبدونه، فمازالت بهم الشياطين حتى أفسدت عليهم فطرهم بالأهواء والفتن، ووضعت في طريق معرفتهم لله عقبات حجبت عن قلوبهم نور المعرفة الصحيحة، فاتخذوا من دونه أندادًا يحبونهم كحب الله، ويطيعونهم في غير ما أمر الله باسم المشايخ والعلماء، وآلهة يعبدونهم ويدعونهم في شدائدهم، ويلجأون إليهم في مهماتهم، باسم الأولياء، والشفعاء، والوسائط والوسائل من أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، وما عندهم بها من علم ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ [لنجم: ٢٨] ولقد لبس عليهم الشياطين حتى زعموا أن هذه الظنون التي يمليها سدنة أولئك الأنداد والأولياء، ويتأكلون منها-: علوما يقينية، وأخبارا حقيقية، يشكون في كل شيء ثبت بالعيان ولا يشكون فيها، وذلك لأن الشياطين قد أفسدت عليهم فطرهم وحجبت بصائرهم بغشاوات من العمه والغي والفساد، فكل ما جاء على خلاف معتقدهم هذا نبذوه، وعادوه، وأبغضوا القائم به، وحاربوه بكل ما عندهم من قوة، ولو قد تبين لهم الحق وقامت عليهم الحجة! فهم محجوبون على عقولهم، لا يقدرون على فكّها من الأغلال والقيود، فلو جاءتهم كل آية لا يؤمنون ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ
1 / 16
يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الأنعام:٢٥]
٢٥- فوظيفة الرسل صلوات الله تعالى عليهم، ووظيفة أتباعهم السالكين لسبيلهم الوارثين لعلومهم وهديهم، هي كسر هذه الأغلال عن القلوب وإرجاعها إلى حالتها الفطرية، سليمة صافية ترى كل شيء على حقيقته فترى الحق حقا والباطل باطلا، وسلاحهم لذلك ما يوحي الله تعالى من علوم، وما ينزِّل من هداية ورحمة، وما يصف نفسه به من صفات حسنى بأسلوب ونظام يملأ القلوب إجلالا له، وحبا خالصا، ليعبدوه مخلصين له الدين حنفاء.
٢٦- كذلك قام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر الهجري، ومن قبله قام بهذه الوظيفة علماء مخلصون صادقون، ولا تزال في هذه الأمة طائفة قائمة على الحق لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى يأتي أمر الله، كما أخبر بذلك الرسول الصادق ﷺ.
٢٧ - ومن أبرز هؤلاء وأظهرهم في القرنين السابع والثامن شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم رحمهما الله، فإن هذين الإمامين الجليلين قاما في وقتهما بجهاد ما كان مستوليا على الأمة من الجبت الطاغوت، فقام عباد هذه الطواغيت يدفعون عن أنفسهم وعن طواغيتهم بكل ما استطاعوا: تلك الصواعق التي كان يرسلها هذان الإمامان من سماء علمهما، وما زالت الحرب بين حزب الرحمن وحزب الشيطان على أشدها حتى اخترمت المنية شيخ الإسلام ابن تيمية حبيسا في قلعة دمشق التي كانت
1 / 17
تحاول يد الظلم القاسية تقييد علمه، وإطفاء نوره، ولكن الله غالب على أمره، فكان يبعث علمه، من طاقات السجن، وكان التلاميذ، ورواد منهله العذب يجلسون تحتها بمحابرهم وأوراقهم وهو يملي عليهم من حفظه، ثم قام من بعده ذلك التلميذ البار، وخلفه في جهاده حتى ملأوا الدنيا علما، وكبت الله حزب عدوه، وأذلهم في مواطن عدة.
٢٨- وما انقضى القرن الثامن الهجري حتى كان الجو العلمي مكهربا بنظريات ابن تيمية وابن القيم، ولم يستطع حزب الطواغيت أن يحط من قدر هذين المجاهدين، ولا أن يفل من سلاحهما على كثرة ما بذل من أنواع الجهود وما اتخذ من أسباب الأذى.
٢٩- ولقد كان من أضعف سلاحهم: الكذب والافتراء، الدال على نذالة في النفوس وحقارة، وأنه لم يبق عندهم من صفات الرجولة شيء، فقد قالوا عن شيخ الإسلام ابن تيمية: إنه مجسم ومشبه الله بخلقه، إذ قالوا كذبًا أنه قال: إن الله ينزل كنزولي هذا –ونزل درجتين من المنبر- كما اتهموه هو وتلميذه ابن القيم بأنهما يحقران عباد الله الصالحين وآل بيت النبي الطاهرين، وينكران كرامات الأولياء المتقين، وقالوا غير ذلك من الأكاذيب والمفتريات التي لا تروج إلا على من فقد كل شيء من الذوق والإحساس، أما من كمله الله بالعقل والتمييز فإنه يرجع إلى كتبهم المنتشرة في كل البلاد، فلا يجد فيها إلا تنزيها لله تعالى بما نزه هو نفسه، وتوضيحا لما في القرآن والسنة النبوية من الأسماء الحسنى والصفات العليا، وصواعق مرسلة على الجهمية والمعطلة، ويرى فيها جموع الجيوش الإسلامية حشدت
1 / 18
لغزو أولئك المعطلة والجهمية، تسمهم بميسم الصغار والهوان، وتقطع لسنتهم الكاذبة، التي تقول على الله وفي الله بالهوى والرأي لا بالعلم والبرهان.
٣٠- ومهما حاول أولئك الطواغيت وعبادهم، زعزعة العقلاء الأحرار، والمفكرين الصادقين عن حب شيخ الإسلام ابن تيمية ومن تبعه قديما وحديثا، فلن يفلحوا أبدا، بل كل يوم يزداد حقهم ظهورا، وعلمهم نورا، لأنهم يستمدون ذلك من نور القرآن والسنة، ولا يخرجون عنهما قيد شعرة، ولأنهم مع الحق، والحق لا يفنى ولا يزول.
٣١ - وعلى نهج شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم سلك شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، لكنه كان قد هيئ له من الظروف ما لم يتهيأ للشيخين، فبلاد نجد البدوية غير مصر والشام التي كانت تعج بالملوك والأمراء والجيوش والقواد، والمدارس، والحضارات، وتكايا المتصوفة المختلفة، والقضاة، والعلماء المدرسين في جميع المذاهب، وما كان باقيا من آثار عقيدة العبيديين وعلومهم الزائفة، والنجديون كانوا –ولا يزالون- يعظمون أهل العلم، ويوقرونهم، ولا يصدر الأمير إلا عن ما يقول العالم، فكان مقام العلماء في نفوس الناس يحمل الأمراء على الرغبة في الاعتزاز بهم، ومن أجل هذا وجد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب من بين أمراء نجد من يرحب به، ويؤيه، وينصره، ويضع سيفه وملكه تحت تصرفه.
٣٢- فكان أن قوي ساعد الشيخ، وارتفع صوته، وعلا ذكره وجاء إليه الناس أفواجا، وكان أن امتد سلطان دعوة التوحيد حتى خفقت راية
1 / 19
الإسلام في ظلها في كل نواحي نجد وأغرى ذلك البلاد المجاورة فقامت تخطب وُدَّ هذه الراية، وتتطلع بشوق عظيم إليها، ورفع الإسلام طرفة الكسير إليها في رجاء وضراعة، يستمد من قوتها أن تتداركه، لتقيله من عثرته، وترفع عن ظهره كابوس البدع والضلالات التي ناء بها، فسرعان ما لبى السعوديون السلفيون ضراعته، وذهبوا يكسرون تلك الأغلال الشركية عنه، ويهدمون هذه الطواغيت والأنصاب التي كادت تقضي عليه، واستخلصوا الإسلام في هذه البلاد والنواحي من براثن أعدائه، فما لبث أن قام أعداء الأنبياء من شياطين الجن والإنس يتصايحون بالويل والثبور، ويتنادون: ﴿وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: ٦٨]
٣٣- لكنهم أضعف ناصرًا وأقل عددًا، فلجأوا إلى الدولة العثمانية يستنصرون بقوتها وبجيشها، ويستفزون ملوكها وقوادها بأساليب الخدع وأنواع الإغراء: بأنها حامية الإسلام، وأن أولئك النجديين يفسدون قلوب الناس، ويغيرون عقائدهم، ويريدون تحويلهم عن الطريق الموروثة، والسبل التي وجدوا عليها الآباء والأجداد، ويحقرون شعائر الدين بهدم قباب المشايخ والأولياء الكبار، التي أطبقت الأجيال على تعظيمها والتبرك بها، وأن قعود الدولة عن رد هؤلاء المعتدين يذهب بهيبتها من نفوس المسلمين، ويحقر من شأنها عندهم، فلا تبقى صاحبة الحق في دعوى الخلافة عليهم.
٣٤- وما زالوا بالعثمانيين يتوسلون إلى ملوكهم وقضاتهم وشيوخ إسلامهم وقواد جيشهم ووزرائهم حتى بعثت جيشا لمحاربة السعوديين، فما لبث أن
1 / 20