بسم الله الرحمن الرحيم

رب يسر وأعن يا كريم

قال الإمام محمد بن أبي بكر بن القيم الجوزية رحمه الله تعالى .

فصل

في الموازنة بين ذوق السماع وذوق الصلاة والقرآن ، وبيان أن أحد الذوقين مباين للآخر من كل وجه ، وأنه كلما قوي ذوق أحدهما وسلطانه ضعف ذوق الآخر وسلطانه.

الصلاة قرة عيون المحبين وهدية الله للمؤمنين(1)

فاعلم أنه لا ريب أن الصلاة قرة عيون المحبين ، ولذة أرواح الموحدين ، وبستان العابدين ولذة نفوس الخاشعين ، ومحك أحوال الصادقين ، وميزان أحوال السالكين ، وهي رحمة الله المهداة إلى عباده المؤمنين .

هداهم إليها ، وعرفهم بها ، وأهداها إليهم على يد رسوله الصادق الأمين ، رحمة بهم ، وإكراما لهم ، لينالوا بها شرف كرامته ، والفوز بقربه لا لحاجة منه إليهم ، بل منة منه ، وتفضلا عليهم ، وتعبد بها قلوبهم وجوارحهم جميعا ، وجعل حظ القلب العارف منها أكمل الحظين وأعظمهما ؛ وهو إقباله على ربه سبحانه ، وفرحه وتلذذه بقربه ، وتنعمه بحبه ، وابتهاجه بالقيام بين يديه ، وانصرافه حال القيام له بالعبودية عن الالتفات إلى غير معبوده ، وتكميله حقوق حقوق عبوديته ظاهرا وباطنا حتى تقع على الوجه الذي يرضاه ربه سبحانه.

Halaman 1

ولما امتحن الله سبحانه عبده بالشهوة وأشباهها من داخل فيه وخارج عنه ، اقتضت تمام رحمته به وإحسانه إليه أن هيأ له مأدبة قد جمعت من جميع الألوان والتحف والتحف والخلع والخلع والعطايا ، ودعاه إليها كل يوم خمس مرات ، وجعل في كل لون من ألوان تلك المأدبة ، لذة ومنفعة ومصلحة ووقار لهذا العبد ، الذي قد دعاه إلى تلك المأدبة ليست في اللون الآخر ، لتكمل لذة عبده في كل من ألوان العبودية ويكرمه بكل صنف من أصناف الكرامة ، ويكون كل فعل من أفعال تلك العبودية مكفرا لمذموم كان يكرهه بإزائه ، ويثيبه عليه نورا خاصا ، فإن الصلاة نور وقوة في قلبه وجوارحه وسعة في رزقه ، ومحبة في العباد له ، وإن الملائكة لتفرح وكذلك بقاع الأرض ، وجبالها وأشجارها ، وأنهارها تكون له نورا وثوابا خاصا يوم لقائه.

فيصدر المدعو من هذه المأدبة وقد أشبعه وقد أشبعه وأرواه ، وخلع عليه بخلع القبول ، وأغناه ، وذلك أن قلبه كان قبل أن يأتي هذه المأدبة ، قد ناله من الجوع والقحط والجذب والظمأ والعري والسقم ما ناله ، فصدر من عنده وقد أغناه وأعطاه من الطعام والشراب واللباس والتحف ما يغنيه .

تشبيه القلب بالأرض

ولما كانت الجدوب متتابعة على القلوب ، وقحط النفوس متواليا عليها ، جدد له الدعوة آلة هذه المأدبة وقتا بعد وقت رحمة منه به، فلا يزال مستسقيا ، طالبا إلى من بيده غيث القلوب ، وسقيها مستمطرا سحائب رحمته لئلا ييبس ما أنبتته له تلك الرحمة من نبات الإيمان ، وكلأ الإحسان وعشبه وثماره ، ولئلا تنقطع مادة النبات من الروح والقلب ، فلا يزال القلب في استسقاء واستمطار هكذا دائما ، يشكو إلى ربه جدبه ، وقحطه ، وضرورته إلى سقيا رحمته ، وغيث بره ، فهذا دأب العبد أيام حياته.

Halaman 2

فالقحط الذي ينزل بالقلب هو الغفلة ، فالغفلة هي قحط القلوب وجدبها ، وما دام العبد في ذكر الله والإقبال عليه فغيث الرحمة ينزل عليه كالمطر المتدارك ، فإذا غفل ناله من القحط بحسب غفلته قلة وكثرة ، فإذا تمكنت الغفلة منه ، واستحكمت صارت أرضه خرابا ميتة ، وسنته جرداء يابسة ، وحريق الشهوات يعمل فيها من كل جانب كالسمائم.

فتصير أرضه بورا بعد أن كانت مخصبة بأنواع النبات ، والثمار وغيرها ، وإذا تدارك عليه غيث الرحمة اهتزت أرض إيمانه وأعماله وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج ، فإذا ناله القحط والجدب كان بمنزلة شجرة رطوبتها وخضرتها ولينها وثمارها من الماء ، فإذا منعت من الماء يبست عروقها وذبلت أغصانها ، وحبست ثمارها ، وربما يبست الأغصان والشجرة ، فإذا مددت منها غصنا إلى نفسك لم يمتد ، ولم ينقد لك ، وانكسر ، فحينئذ تقتضي حكمة قيم البستان قطع تلك الشجرة وجعلها وقودا للنار .

Halaman 3

القلب ييبس إذا خلا من توحيد الله فكذلك القلب ، إنما ييبس إذا خلا من توحيد الله وحبه ومعرفته وذكره ودعائه ، فتصيبه حرارة النفس ، ونار الشهوات ، فتمتنع أغصان الجوارح من الامتداد إذا مددتها ، والانقياد إذا قدتها ، فلا تصلح بعد هي والشجرة إلا للنار { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين} [الزمر :22] ، فإذا كان القلب ممطورا بمطر الرحمة ، كانت الأغصان لينة منقادة رطبة ، فإذا مددتها إلى أمر الله انقادت معك ، وأقبلت سريعة لينة وادعة ، فجنيت منها من ثمار العبودية ما يحمله كل غصن من تلك الأغصان ومادتها من رطوبة القلب وريه ، فالمادة تعمل عملها في القلب والجوارح ، وإذا يبس القلب تعطلت الأغصان من أعمال البر ؛ لأن مادة القلب وحياته قد انقطعت منه فلم تنتشر في الجوارح ، فتحمل كل جارحة ثمرها من العبودية ، ولله في كل جارحة من جوارح العبد عبودية تخصه ، وطاعة مطلوبة منها ، خلقت لأجلها وهيئت لها .

الناس ثلاثة أقسام في استعمال جوارحهم

والناس بعد ذلك ثلاثة أقسام :

أحدهما : من استعمل تلك الجوارح فيما خلقت له ، وأريد منها ، فهذا هو الذي تاجر الله بأربح التجارة ، وباع نفسه لله بأربح البيع.

والصلاة وضعت لاستعمال الجوارح جميعها في العبودية تبعا لقيام القلب بها وهذا رجل عرف نعمة الله فيما خلق له من الجوارح وما أنعم عليه من الآلاء ، والنعم ، فقام بعبوديته ظاهرا وباطنا واستعمل جوارحه في طاعة ربه ، وحفظ نفسه وجوارحه عما يغضب ربه ويشينه عنده.

والثاني : من استعمل جوارحه فيما لم تخلق له ، بل حبسها على المخالفات والمعاصي ، ولم يطلقها ، فهذا هو الذي خاب سعيه ، وخسرت تجارته ، وفاته رضا ربه عز وجل عنه ، وجزيل ثوابه ، وحصل على سخطه وأليم عقابه.

Halaman 4

والثالث : من عطل جوارحه ، وأماتها بالبطالة والجهالة، فهذا أيضا خاسر بائر أعظم خسارة من الذي قبله ،فإن العبد إنما خلق للعبادة والطاعة لا للبطالة .

وأبغض الخلق إلى الله العبد البطال الذي لا في شغل الدنيا ولا في سعي الآخرة.

بل هو كل على الدنيا والدين ، بل لو سعى للدنيا ولم يسع للآخرة كان مذموما مخذولا ، وكيف إذا عطل الأمرين ، وإن امرء يسعى لدنياه دائما ، ويذهل عن أخراه ، لا شك خاسر.

تمثيل لهذه الأصناف الثلاثة

فالرجل الأول ، كرجل أقطع أرضا واسعة ، وأعين على عمارتها بآلات الحرث ، والبذر وأعطي ما يكفيها لسقيها وحرثها ، فحرثها وهيأها للزراعة ، وبذر فيها من أنواع الغلات ، وغرس فيها من أنواع الأشجار والفواكه المختلفة الألوان ثم أحاطها بحائط ، ولم يهملها بل أقام عليها الحرس ، وحصنها من الفساد والمفسدين ، وجعل يتعاهدها كل يوم فيصلح ما فسد منه ، ويغرس فيها عوض ما يبس ، وينقي دغلها ويقطع شوكها ، ويستعين بغلتها على عمارتها.

والثاني : بمنزلة رجل أخذ تلك الأرض ، وجعلها مأوى السباع والهوام ، وموضعا للجيف والأنتان ، وجعلها معقلا يأوي إليه فيها كل مفسد ومؤذ ولص ، وأخذ ما أعين به من حرثتها وبذارها وصلاحها ، فصرفه وجعله معونة ومعيشة لمن فيها ، من أهل الشر والفساد.

والثالث : بمنزلة رجل عطلها وأهملها وأرسل الماء ضائعا في القفار والصحارى فقعد مذموما محسورا.

فهذا مثال أهل اليقظة ، وأهل الغفلة ، وأهل الخيانة.

أهل اليقظة والغفلة الخيانة

فالأول : مثال أهل اليقظة ، والاستعداد لما خلقوا له.

والثاني : مثال أهل الخيانة.

والثالث : مثال لأهل الغفلة .

فالأول : إذا تحرك أو سكن ، أو قام أو قعد ، أو أكل أو شرب ، أو نام ، أو لبس ، أو نطق ، أو سكت كان كله له لا عليه ، وكان في ذكر وطاعة وقربة ومزيد .

Halaman 5