ولما نقه أشار الطبيب عليه بأن يتنزه كل يوم نحو ساعة في مركبته في جهة جافة الهواء نقيته، وفي ذات عصر والفصل ربيع كان الأمير في مركبته وهي تدرج ببطء كلي في الشارع الذي يصل العباسية بقصر القبة العامر، فرأى إلى يمينه فتى في أول الشباب يمشي على موازاته وهو يمسح دموعه بعينيه، ثم لا يلبثان أن يغرورقا فيمسحهما. وبعد هنيهة أصبح وراء المركبة؛ لأنه كان يتمشى أبطأ منها، فأثر منظر هذا الفتى على الأمير جدا، وأوعز إلى حوذيه أن يتوقف، وما هي هنيهة حتى صار الفتى محاذيا للمركبة، فرآه الأمير لم يزل يبكي فشغل باله أمره، فناداه قائلا: «يا سيدي الشاب!» فالتفت الفتى إلى المركبة وأحدق في الأمير، فقال هذا له: هل تشاء أن تركب إلى جانبي في هذه النزهة فنتحادث قليلا لكي نقتل الوقت؟
وكان الفتى لا يزال يحدق بالأمير أكثر مما يصغي إليه، فقال: أشكر لطفك يا مولاي، ما أتيت لأجل النزهة، بل لأبتعد عن ضوضاء العالم وأختلي بنفسي.
فازدادت رغبة الأمير في الاطلاع على سر هذا الفتى، فقال له: إن الاختلاء يعظم حزنك يا أخي فتجنبه، ومهما يكن قصدك منه وتأثيره عليك فأرجو منك أن تخالف رغبتك هذه المرة؛ لأن لي شوقا شديدا إلى محادثة الحزانى اليوم، فإن نفسي حزينة أيضا.
وقد شعر الفتى كأن يد العناية قد رفعته ووضعته في المركبة إلى يمين الأمير، وشعر الأمير كأن فلذة من قلبه كانت مقطوعة منه فردت إليه، وكان الفتى جميل الطلعة بشير المحيا، يكاد ينبثق الذكاء من مقلتيه والطيبة من صدره، وقد لبس ثوبا بسيطا جدا طفيف القيمة، ولكنه مهندم نظيف، فقال له الأمير: أيجوز لي أن أسألك يا عزيزي ما سبب بكائك؟
وكان الفتي يكثر من تأمل الأمير، فأجابه مستحيا: ليس سبب بكائي يا مولاي سرا معيبا، وإنما هو موضوع يحاول كل امرئ إخفاءه. - إذا لم يكن سرا معيبا، فلماذا يخفيه الإنسان؟
فابتسم الفتى قائلا: لأن موضوعه عميق خفي.
فضحك الأمير لأنه أدرك حالا الموضوع، فقال: إذن السبب حب يا عزيزي.
فاستحى الفتى قليلا وقال: نعم يا مولاي. - أيجوز لي أن أسألك حكاية هذا الحب؟ لعل لي فيه رأيا عن اختبار طويل؛ لأني أحببت كثيرا في حياتي. - أحببت كثيرا؟ - من لم يحب فهو حجر. فقوي قلب الفتى على الكلام. - إني أتوسم فيك يا مولاي غوثا لي؛ ولذلك أشكو إليك أمري. - إن كنت أقدر أن أفيدك بأمر، فتأكد أني أفعل غير معبئ بكلفته، فقل ما عندك مطمئنا. - مولاي اسمح لي أن أتكلم بكل حرية. - لا تتكلم إلا بكل حرية إن كنت عليل القلب وتتخذني طبيبك. - ربيت في دير هو مدرسة للأيتام، وكنت أتعلم بعض العلوم وفن الخياطة، وبقيت أكثر سني مسرور القلب من كل ما حولي إذ لم يكن من هم يهمني، ولكني في السنين الثلاث الأخيرة كنت كل الوقت مكتئب القلب أنتظر يوم الأحد بفروغ صبر ذلك؛ لأني كنت أرى في الكنيسة فتاة من بنات مدرسة العازرية اليتامى ملكت قلبي، وقد حاولت مرارا واجتمعت بها سرا هنيهات بثثتها فيها آيات حبي الصادق، وعلمت أنها مثلي في الهوى، وما تفاهمنا صريحا وتعاهدنا على الحب الراسخ الأبدي حتى فقدتها من الكنيسة، فبحثت عنها فقيل لي إنها أخذت إلى بيت أحد الإفرنج معلمة لصغاره، فصممت على الخروج من المدرسة برضى الرئيسة أو بالرغم منها. وبالاختصار، خرجت وبحثت عن حبيبتي فعلمت أنها في منزل خياط شهير يتاجر بالأقمشة، ففرحت لهذه المصادفة وقصدت إلى ذلك الخياط والتمست منه أن أشتغل عنده فقبلني، وبعد الامتحان عين لي أجرة ريالا كل يوم، فصرت أتودد إليه، وأقضي له بعض المهام تبرعا، حتى صار يرسلني إلى منزله لقضاء بعض حاجات، وهناك قابلت حبيبتي، فدهشت إذ رأتني، وعرفت أني لأجلها تركت المدرسة وسعيت إلى لقائها، وجددنا عهد الحب، وصرت أغتنم الفرص لمقابلتها، وأخيرا صممنا على الزواج متوقعين الفرص المناسبة لذلك، واتفقنا على أن نوفر ما استطعنا من ماهيتنا لكي نعد لنا بيتا صغيرا مناسبا لحالتنا، ولكن أبى الزمان أن يبقى مغضيا عنا، فتنبه سيدنا المسيو م. ج. الذي نشتغل عنده إلى أمرنا، وعرف ما بيننا من العهود، فشق عليه أن تفترق حبيبتي عن أولاده لتتحد بي، فتأمل إلى أي حد بلغ حب النفس! فإن هذا الرجل الحيواني استسهل أن يضحي بإحساساتنا وعواطفنا على مذبح مصلحته الذاتية، فطردني من خدمته اليوم وحتم على حبيبتي أن تمتنع عن مقابلتي، وإذا رامت أن تتركه تهددها قائلا: «إنك تحت إمرتي؛ لأني مسئول عنك لرئيسة مدرستك!» إلى غير ذلك من الكلام الفارغ، فهمت على وجهي اليوم أبكي من سوء الطالع ومن ظلم البشر، فقل لي يا سيدي، هل يحق للمسيو م. ج. أن يحبس حبيبتي عنده؟ - كلا البتة، ولا رئيستها تستطيع ذلك، ولا مسيطر على الفتاة إلا أبواها. - هي مثلي لا أب لها ولا أم. - كيف ذلك؟! ألا والدان لك؟ - كلا يا سيدي، لا أعرف والدي. - إذن ربيت كل حياتك في المدرسة. - كلا، وإنما أذكر كالحلم أني كنت في عهد الطفولية في بيت فلاح، ثم أذكر جيدا أني قضيت برهة لا أعرف كم هي في بيت فخيم عظيم كنت فيه مدللا جدا، وتلك الأيام أوضح تذكاراتي الصبوية؛ لأني كنت في نعيم.
فتنبه الأمير نعيم جيدا، واعتدل في مكانه وقال: ألا تذكر أصحاب ذلك البيت؟ - أذكر امرأة لطيفة جدا كنت أدعوها أمي جوزفين ... - وهل تذكر من كنت تدعوه أبا؟
وكان الفتى يحملق بالأمير، فقال: أذكر رجلا يشبهك يا مولاي كل الشبه، كان الخدم يقولون له الأمير. - ما اسمك يا بني؟ - كنت أدعى «يوسف»، ولما أدخلت المدرسة أضافت الرئيسة إليه لفظة «العفيف». - أتسمح لي أن أسألك: أتعرف إن كان لك علامة خصوصية في ظهرك؟ - نعم، على ظهري وشم هلال.
Halaman tidak diketahui