ولما كانت الساعة التاسعة مساء كانت جوزفين في قاعة الفندق بعد العشاء تستريح في الشرفة متعللة بالنسيم اللطيف، فدخل الأمير نعيم وماري إلى القاعة يضحكان ويمزحان ويهزلان كأنهما مثالا حب، فانتبهت جوزفين وإذا هما في الشرفة إلى جانبها وقد أخذ كل منهما كرسيا وجلس وجوزفين واقفة، فلم تعد تحملها قدماها فوقعت على الأرض مغمى عليها تمام الإغماء، فنهض الأمير نعيم واحتملها إلى غرفتها، وطلب من الفندقي بعض المنعشات، وعالجها حتى استفاقت، فنظرت إليه وروحها في عينيها وقالت بصوت خافت وقلبها بين شفتيها: أشكرك يا نعيم. - لم أفعل إكراما لك، بل لأن الرجولية تقضي علي بذلك، فلا تشكريني. - لا أشكر لك عملك؛ لأنه لا شيء بالنسبة إلى محامدك، وإنما أشكر لك انتقامك؛ فإنه أعظم انتقام اخترعه البشر، ولكن على أي ذنب تعاقبني؟! - اسكتي يا امرأة، إني لا أعرفك.
فصرخت به جوزفين قائلة: ويلاه! ألا رحمة؟! من احتمل ما احتملت.
وانقلبت إلى جنبها ووجهها إلى الحائط غائبة عن رشدها، فتساقط الدمع من عيني الأمير نعيم ولم يتمالك نفسه عن البكاء، وكانت ماري واقفة تشاهد هذا المشهد المؤثر وقلبها يخفق جزعا، فاغتنمت فرصة انقلاب جوزفين، وأمسكت بيد الأمير نعيم، وهمست قائلة: دعها الآن، فإني أرثي لها.
فتبعها الأمير إلى القاعة، وبعد برهة سأل عن سلامة جوزفين فقيل له إنها نائمة، وعند ذلك ألحت عليه ماري أن ينطلقا إلى فندق رويال لئلا يبقى في فندق إيطاليا متأثرا، فذهبا. وفي صباح اليوم التالي صحا الأمير نعيم بعد نوم قليل مكتئب القلب جدا، شاعرا بالإشفاق العظيم على جوزفين، فبعد أن أفطر ذهب إلى فندق إيطاليا من غير أن يخبر ماري، وسأل عن جوزفين، فقال الفندقي إنها تركت الفندق في هذا الصباح إلى حيث لا يعلم، فطاف الأمير على أكثر الفنادق فلم يجد لها أثرا.
الفصل العشرون
مفتاح الأسرار
مر على هذه الحوادث نحو عشرة أعوام كانت على آل ذلك البيت الكريم متشاكلة؛ إذ لم يحدث لهم فيها أمر يستحق الاعتبار.
وكان الأمير عاصم قد قطع الأمل من الحصول على يد الأميرة نعمت هانم زوجة؛ لأنها رفضته بتاتا حتى بعد وعدها أن تتزوجه حافظة لنفسها حق عصمتها؛ ولذلك تزوج، وكذلك زوج أخته إذ يئس من ميل الأمير نعيم إليها، ومن ثم عقد نيته على أن ينتهز كل فرصة مناسبة للانتقام الخفي من الأمير نعيم وأخته الأميرة نعمت، ولكنه كان في الظاهر يتظاهر بالغيرة على مصلحتهما وطيبة القلب لهما، بالرغم مما صادف من نفور نعمت.
أما نعمت فبقيت كل تلك المدة عزباء؛ لأنها أبت أن تتزوج إلا حافظة عصمتها، ولم تجد طالبا يعجبها؛ لأنها كانت ذات أميال خصوصية.
وأما الأمير نعيم فبقي عازبا أيضا؛ لأنه أبى أن يتزوج بعد جوزفين، وندم على عدم مقابلتها بالرغم من اقتناعه بخيانتها، ولكنه اعتقد أنها تابت وأنها كانت مخدوعة أو مكرهة، وإلا لما سقطت بهذا الإثم؛ ولذلك سامحها وكان يتمنى أن يهتدي إلى مقرها، ففتش عنها كثيرا فلم يجدها.
Halaman tidak diketahui