ولما انتهت الساعة الخامسة كانت مركبة مقفلة تدرج بجوزفين ويوسف إلى حيث لا يدريان، وقد أطلقت جوزفين الحرية لخدم القصر أن يذهبوا حيث يريدون في ذلك المساء، فذهب كل منهم إلى جهة يتنزهون أو يزورون أصدقاءهم.
أما جوزفين فبعد أن ملت طول المسافة وتعوج الطريق في الشوارع الضيقة والأزقة القذرة وصلت إلى منزل مدام ببيني، وهي لا تدري في أي نقطة هي، فدخلت في باب حقير ويد يوسف بيدها إلى أن صعدت في سلم ضيق قذر، وانتهت إلى قاعة بسيطة، استقبلتهما فيها مدام ببيني بقبلات يهوذا الإسخريوطي وقالت لها: أرجو منك يا حبيبتي أن تعذريني على استدعائك من أبهة قصرك إلى حقارة منزلي. - إن قصري مع الوحدة كوخ حقير يا مدام ببيني، ولكن منزلك بما فيه من دواعي الأنس لهو القصر الحقيقي. - أشكر لطفك جدا يا سيدتي المحبوبة، ولي الأمل أن تسري ببساطة مجاملتي لك.
وقد بالغت مدام ببيني في مؤانسة جوزفين وملاطفتها ومحادثتها وملاعبة الصبي وممازحته، حتى شعرت جوزفين أن تلك الساعة من أسعد ساعات حياتها، وبعد تناول الشاي استولى عليها سبات عميق، فجعل القبلة الأخيرة من مدام ببيني لها آخر تذكاراتها في ذلك المنزل المجهول.
وفي صباح اليوم التالي صحت جوزفين فذعرت؛ إذ رأت نفسها على سرير بسيط في غرفة زهيدة الأثاث مقفلة النوافذ، وأمامها شاب يبتسم لها وهي خالية الذهن من صورته، فنهضت مذعورة وجلست في السرير، وقالت مضطربة: من أنت؟
فقال بكل تلطف بالفرنسية، وقد تراءى لها أنه فرنسي الجنسية: أنا من يعبدك.
فنظرت إلى ما حولها وجلة وأدارت نظرها في كل جهات الغرفة مندهشة. - ويلاه! أين أنا؟ أفي منزل مدام ببيني؟ - كلا يا معبودتي، بل أنت في المسجد الذي أعبدك فيه. - ويلي! ويلي! من أنت؟ أين مدام ببيني؟ أين يوسف؟ رحماك! قل لي من أتى بي إلى هنا؟ - يد القدر. - إذن سلمتني مدام ببيني بخيانة. - ما مدام ببيني وغيرها إلا آلة في يد القدر.
فانفجر فم جوزفين بالبكاء والنحيب وهي تقول: قاتلها من خائنة رديئة، ويلي! ما أشاقاني! ما الغاية من هذه الخيانة؟
ثم تجلدت إذ انتبهت لنفسها، فبسطت ذراعيها أمام ذلك الفتى وقالت: رحماك، رحماك! أرسول خير أنت أم رسول شر؟ - كما تشائين. - ويلاه، ويلاه! وقعت في الشرك، ماذا تريد مني يا سيدي؟ - قبل كل شيء أرجو منك أن تنزلي عن سريرك وتجلسي إلى هذا المكتب. - ثم ماذا؟ - متى جلست إليه أقول لك.
فنزلت وهي تقول: «بربك ارحمني؛ فإني طيبة القلب لا أستحق إلا الرحمة!» ثم جلست فقدم لها ورقا وقلما ودواة وقال: «اكتبي ما في هذه الورقة.» فأجابته على الفور: أتريد نقودا؟ - كلا كلا.
فقدم لها ورقة مكتوبة باللغة النمساوية - لغتها - فازداد اضطرابها، وجعلت تقرأ ما معناه:
Halaman tidak diketahui