بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة التحقيق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمّد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فقد أعز الله ﵎ هذه الأمة بأن جعل لغتها لغة القرآن المتعبد بتلاوته إلى يوم القيامة؛ فأكرم الله ﷿ هذه اللغة، وأعلى من شأنها، حيث صارت علومها من علوم الدين؛ ولذا انبرى سلفنا الصالح للقيام بالواجب تجاه هذه اللغة وقدسيتها، فقعدو قواعدها، وأرسوا أسس علوم نحوها، وصرفها، وبلاغتها، وآدابها، وما يتعلق بكل جانب من جوانبها، حتى تكامل بنياتها، وتشعبت ميادينها، وصار لكل علم من علومها ولكل فن من فنونها علماء متخصصون يدرسون ويؤلفون، ويتتلمذ على أيديهم طلاب علم مجدون، لا يلبثون أن يصبحوا بعد فترة من الزمن علماء عاملين مجددين ومحافظين، يتابعون طريق أساتذتهم وشيوخهم في مجال التصنيف والتدريس؛ وهكذا، تنتقل الأمانة من جيل إلى جيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولعلّ أهم ما يميز هذا العصر عما تقدمه من عصور هو التفات أبنائه إلى تراث الآباء والأجداد، والسعي الحثيث إلى بعثه وتحقيقه؛ لما فيه من ذخائر وكنوز، قل نظيرها عند غيرنا من الأمم مدفوعين إلى ذلك بدافع ديني، وهو الحفاظ على علوم الدين -ومنها علوم اللغة وآدابها- وبدافع قومي، وهو الحفاظ على اللغة العربية حية متجددة؛ لأنها العامل الموحد والأساس من عوامل الوحدة العربية؛ فالمحافظة عليها، وعلى تراثها، ضرورة ملحة، وواجب قويم يقع على عاتق أبنائها، إذا كانوا أمناء بحق وصدق على ما أولاهم الله -تعالى- واختصهم به من مقدرات هذه الأمة تسارعت أمم الأرض من كُلّ
1 / 5
حدب وصوب؛ لاستنزاف خيراتها، وتدمير ما خلّفه الأسلاف للأحفاد من أبنائها في مجالات الحضارة على اختلافها.
فحري بمثقفي هذه الأمة المتخصصين من أبنائها أن يحافظوا على تراث الآباء والأجداد، وأن يسعوا جاهدين لتجديده، وإحيائه، ودراسته، وفهمه، وشرحه، والزيادة عليه بما يتوصلون إليه من معارف وعلوم وفنون؛ لأنّ العلوم حلقات متصلة عبر مسيرة الحياة، وهكذا يتم التواصل بين الأجداد والأحفاد.
من هذا المنطلق، قررت أن يكون أحد تخصصاتي الجامعية في الدراسات العليا تحقيق أثر من آثار سلفنا الصالح، ثم تابعت السير على طريق البحث والتحقيق، لعلي أساهم مساهمة متواضعة في وضع لبنةٍ ما في صرح تراثنا الشامخ.
وأما اختياركتاب: أسرار العربية، لأبي البركات الأنباري، فلما يتسم به هذا الكتاب من جِدَّة في موضوعه، وبحثه عن علل الإعراب، وأسباب تسمية كثير من المصطلحات النحوية التي يعود إليه الفضل في جمعها، وإن كان النحاة قبله قد ذكروا شيئًا منها في ثنايا موضوعاتهم التي طرقوها.
ولم يكن أبو البركات في كتابه هذا جامعًا وحسب، وإنما كان يطرح التساؤلات، ثم يجيب عنها إجابة العالم الواثق، السريع البديهة، الحاضر الذهن، في الإتيان بالشواهد المناسبة، والحجج القاطعة التي يدعم بها آراءه. كيف لا؟ وهو العالم الحاذق الذي تتبع مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين١، وتعرّف أسس كلا المذهبين، وحججهما، فتبنّى ما رآه صوابا -وفق اعتقاده- وفند الحجج التي رآها بعيدة عن الصواب بأسلوب واضح، يَنِمُّ عن ذكاء خارق، وسعة اطلاع.
وما أريد أن أثير انتباه الدارسين والباحثين وطلاب الدراسات العليا إليه في هذه العجالة، هو أن ابن الأنباري وضع اللبنات الأولى لفنَّين اثنين في غاية الأهمية من خلال كتابيه: أسرار العربية، والإنصاف في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين، ففي الأول -أسرار العربية- شق الطريق إلى إيجاد فن متكامل في مجال الدراسات النحوية، يمكن أن نطلق عليه اسم: الفلسفة النحوية.
_________
١ الإشارة إلى كتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين" للمؤلف.
1 / 6
وفي الثاني -الإنصاف في مسائل الخلاف- مهد الطريق إلى إيجاد فن متكامل في المجال نفسه، يمكن أن نطلق عليه اسم: النحو المقارن؛ وكلا الفنين لما يتطرق إليه أحد حتى الآن. فعلى الباحثين والدارسين المعاصرين تقع مسئولية معالجة هذين الفنين وتكاملهما؛ لما فيهما من الأهمية بمكان على طريق تهذيب النحو العربي، وتسهيل قواعده، واعتماد الأسهل، والأنسب، والموافق للأسس التي قام عليها، وتجاوز الآراء الغريبة التي تعتمد أدلة وحججها واهية، لا داعي لأن نشحن أذهان ناشئتنا بها.
فلهذا الكتاب -أسرار العربية- أهمية خاصة، ينبغي الانتباه إليها، ولعلها أحد الأسباب التي دعتني إلى تحقيقه والتعليق عليه. وأما عملي فيه، فقد أوضحته في قسم التمهيد من هذا الكتاب الذي جاء في ثلاثة أقسام هي:
القسم الأول: قسم التمهيد: وفيه تناولت المباحث التالية:
أولا: تعريف موجز بأبي البركات الأنباري.
ثانيا: منهج أبي البركات النحوي في كتاب أسرار العربية.
ثالثا: عملنا في الكتاب.
القسم الثاني: الكتاب محققًا.
القسم الثالث: قسم المسارد الفنية.
وفي الختام لا بد من التقدم بأسمى آيات التقدير والاحترام إلى كل من ساهم في صف هذا الكتاب، وإخراجه، وطبعه، وتجليده، ونشره؛ وأخص بالذكر الصديق الحاج أحمد أكرم الطباع صاحب دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع ومديرها؛ لما يقوم به من عمل مشكور في ميدان إحياء التراث العربي والإسلامي من خلال قيامه بطباعة الكثير من الكتب التراثية النفيسة؛ فجزاه الله تعالى خير الجزاء، وجعل ذلك في صحيفة عمله يوم القيامة.
وأسأل الله ﷻ أن يهيئ لهذا التراث من يقوم على خدمته بأمانة ونزاهة إلى يوم الدين. وأتضرع إليه -جل في علاه- أن يحف علينا جوارحنا وملكة تفكيرنا على الدوام، وأن يجعلها الوارثة منا، إنه هو الرحيم الرحمن.
﴿رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَه
1 / 7
عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٢٨٦] .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وكتبه: بركات يوسف هبود
بيروت في ١٥/ ذي القعدة/ ١٤١٩هـ
الموافق له ٣/ آذار/ ١٩٩٩م
1 / 8
القسم الأول: قسم التمهيد
ويشمل المباحث التالية:
أولا: تعريف موجز بالأنباريّ.
ثانيا: منهج الأنباري النحوي في كتاب أسرار العربية.
ثالثا: عملنا في الكتاب.
1 / 9
أولا: تعريف موجز بالأنباري
اسمه ونسبه: هو عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله بن أبي سعيد الأنباري١؛ لقبه كمال الدين، وكنيته أبو البركات٢.
المولد والنشأة:
ولد في الأنبار، وسمع من أبيه فيها، ثم قدم بغداد في صباه، وسكن فيها إلى أن مات؛ وكانت ولادته سنة ٥١٣هـ على الأرجح.
شيوخه وطلبه العلم: سمع عن أبيه في صباه في بلدة الأنبار، ولما قدم إلى بغداد، قرأ اللغة على أبي منصور الجواليقي٣، وصحب أبا السعادات، الشريف هبة الله ابن
_________
١ الأنباري: نسبة إلى "أنبار" وهي بلدة قديمة على الفرات؛ بينها وبين بغداد عشرة فراسخ. راجع معجم البلدان ١/ ٣٠٥.
٢ راجع ترجمته في: إنباه الرّواة على أنباه النحاة، للقفطي؛ تحق محمد أبي الفضل إبراهيم "القاهرة: دار الكتب المصرية، ١٩٥٢م" مج٢، ص١٦٩.
شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الحنبلي "القاهرة: مك القدسي، ١٣٥١هـ" مج٤، ص٢٥٨.
وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لابن خلكان، تحق د. إحسان عباس "بيروت: دار صادر، ١٩٧٨" مج٣، ص١٣٩.
بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، للسيوطي؛ تحق محمد أبي الفضل إبراهيم القاهرة: مطبعة عيسى البابي الحلبي بمصر، ١٩٦٤م؛ مج٢، ص٨٦، وغيرها.
٣ الجواليقي: موهوب بن أحمد بن محمد بن الحسن الجواليقي؛ كان إمامًا بارعًا في اللغة والنحو والأدب. درس الأدب في المدرسة النظامية ببغداد بعد الخطيب التبريزي؛ من آثاره: شرح أدب الكتاب، وغيره. مات سنة ٥٣٩هـ. راجع إنباه الرواة ٣/ ٣٣٥.
1 / 13
الشجري١ حتى برع في النحو. وأخذ الفقه على سعيد بن الرزاز٢، وتفقه على مذهب الشافعي بالمدرسة النظامية. وسمع الحديث من أبي منصور، محمد بن عبد الملك بن خيرون٣، وأبي البركات، عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي٤، وغيرهما.
تلاميذه: لم تذكر كتب التراجم من تلاميذه أحدًا يُذكر سوى الحافظ أبي بكر الحازمي٥ الذي روى عنه؛ والرواية غير التلمذة كما هو معلوم. ولعل سبب ذلك هو انصراف أبي البركات إلى التأليف؛ واعتزاله الناس أكثر أوقاته كما سنرى.
منزلته العلمية: كان ابن الأنباري إمامًا ثقة، غزير العلم في اللغة والأدب وتاريخ الرجال٦، درس النحو في المدرسة النظامية ببغداد، وصار معيدًا فيها. وكان يعقد مجلس الوعظ، ثم قرأ الأدب، وحدّث باليسير، لكن روى الكثير من كتب
_________
١ ابن الشجري: هبة الله بن علي بن محمد الحسيني الشريف المعروف بابن الشجري؛ كان إمامًا في اللغة والأدب. مات ببغداد سنة ٥٤٢هـ.
٢ ابن الرزاز: سعيد بن محمد بن عمر بن منصور بن الرزاز، كان إمامًا في الفقه والأصول ومسائل الخلاف، وتفقه على الغزالي، وغيره. ودرس مدة في المدرسة النظامية، ثم عزل. مات سنة ٥٣٩هـ.
٣ ابن خيرون: أبو منصور، محمد بن عبد الملك بن خيرون، البغدادي، المقرئ؛ من آثاره: المفتاح، والموضح في القراءات. مات سنة ٥٣٩هـ.
٤ الأنماطيّ: أبو البركات، عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي الحنبلي، كان حافظًا، متقنًا، كثير السماع، ثقة، لم يتزوج في حياته، وكان واسع الرواية متفرغًا للحديث. مات سنة ٥٣٨هـ.
٥ أبو بكر الحازمي: محمد بن موسى المعروف بالحازمي، الهمذاني، الشافعي، الملقب زين الدين، كانا فقيهًا حافظًا، زاهدًا؛ من آثاره: الناسخ والمنسوخ، وغيره. مات سنة ٥٨١هـ.
٦ راجع: الوسيط في تاريخ النحو العربي، د. عبد الكريم محمد الأسعد "ط. أولى الرياض: دار الشواف للنشر والتوزيع، ١٤١٣هـ/ ١٩٩٢م"، ص ١٣٧.
1 / 14
الأدب. وصفه الشيخ موفق الدين البغدادي -٦٢٩هـ قائلًا: لم أر في العباد والمنقطعين أقوى منه في طريقه، ولا أصدق منه في أسلوبه، جد محض لا يعتريه تصنع، ولا يعرف السرور، ولا أحوال العالم..١.
تدينه وورعه: كان أبو البركات الأنباري متدينًا ورعًا، تفقه في المدرسة النظامية على مذهب الشافعي -كما أسلفنا- ثم حدث فيها. وكان إمامًا ثقة صدوقًا، وفقيهًا مناظرًا غزير العلم، وعفيفًا لا يقبل عطايا الخلفاء والأمراء، وكان يرضى بالكفاف من العيش، ويلبس الخشن من الثياب. وكان يعيش حياة الزاهدين معتمدًا على أجرة دار وحانوت؛ مقدار أجرتهما نصف دينار في الشَّهر.
وذكر بعض من ترجم لأبي البركات أنَّ المستضيء٢ أرسل إليه خمسمائة دينار، فردها؛ فقالوا له: اجعلها لولدك؛ فقال: إن كنت خلقته فأنا أرزقه.
وكان رحمه الله تعالى يلبس في بيته ثوبًا خَلَقًا، وكان له ثوب وعمامة من قطن يلبسهما يوم الجمعة.
وقيل: إنه انقطع في آخر عمره في بيته مشتغلًا بالعلم والعبادة، وترك الدنيا، ومجالسة أهلها، ولم يكن يخرج إلا لصلاة الجمعة٣.
آثاره: صنف أبو البركات الأنباري كثيرًا من الكتب والكتيبات والرسائل في المجالات اللغوية، والنحوية، والفقهية، والأصولية، والكلامية، والتاريخية، وغيرها. وذكر بعضهم له ديوان شعر، والأرجح أن يكون نظم الأبيات أو المقطوعات على غرار العلماء والأدباء الذين ينظمون بعض القصائد أو المقطوعات في مناسبات مختلفة.
_________
١ أسرار العربية، لابن الأنباري؛ تحق محمد بهجة البيطار "دمشق: مطبوعات المجمع العلمي العربي، ١٩٥٧م"، ص ١٢.
٢ المستضيء: أبو محمد، الحسن بن يوسف المستنجد، ابن المقتفي كان خليفة محمود السيرة، توفي سنة ٥٧٥هـ.
٣ راجع المصادر المذكورة في ترجمته، والأعلام للزركلي الطبعة الثانية؛ مج٤، ص١٠٤.
1 / 15
وأمّا مؤلفاته: فقد ذكر السبكي في كتابه: طبقات الشافعية الكبرى، أن لأبي البركات في اللغة والنحو ما يزيد على خمسين مصنفًا. وجاء بعده السيوطي، ليوصلها في كتابه: بغية الوعاة، إلى سبعين مصنفًا. وأما ابن العماد، فقد أوصلها في كتابه: شذرات الذهب، إلى ثمانين مصنفًا ومائة مصنف. وتجدر الإشارة -هنا- إلى أن المصنف قد يحتوي عددًا من الأوراق والصفحات، وقد يتجاوز ذلك إلى العشرات، والمئات. وسنكتفي في هذه العجالة بذكر أهم مصنفاته اللغوية والنحوية؛ وهي:
١- أسرار العربية.
٢- الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين.
٣- البلغة في أساليب اللغة.
٤- تفسير غريب المقامات الحريرية.
٥- الزاهر في اللغة.
٦- شرح السبع الطوال.
٧- كتاب اللمعة في صنعة الشعر.
٨- نزهة الأَلبّاء في طبقات الأدباء.
شعره:
كان رحمه الله تعالى ينظم الشعر كغيره من العلماء الذين رزقوا قريحة شعرية وأغلب الظن أنه كان مقلًّا؛ لانشغاله بعلوم الدين واللغة والأدب من جهة، ولتورعه الذي يربأ به عن الانسياق وراء شيطان الشعر، وتضييع الوقت فيما لا فائدة تُرجى منه يوم المعاد من جهة ثانية؛ ومن شعره: [الكامل]
العلم أَوْفَى حلية ولباس ... والعقل أَوْقَى جُنَّة الأكياس
والعلم ثوب والعفاف طرازه ... ومطامع الإنسان كالأدناس
والعلم ثوب يُهتدى بضيائه ... وبه يسود الناس فوق الناس١
وذكر السيوطي في بغية الوعاة:
[البسيط]
إذا ذكرتك كاد الشوق يقتلني ... وأرقتني أحزان وأوجاع
وصار كُلِّي قُلوبًا فيك دامية ... للسقم فيها وللآلام إسراع
_________
١ فوات الوفيات "ط، مصر، ١٢٩٩هـ"؛ مج١، ص٢٦٢.
1 / 16
فإن نطقت فكُلِّي فيك ألسنة ... وإن سمعت فكلي فيك أسماع١
وفاته: توفي أبو البركات الأنباري -رحمه الله تعالى- ليلة الجمعة في التاسع من شعبان سنة سبع وسبعين وخمسمائة هجرية ٥٧٧هـ، ١١٨١م، ودفن بتربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي٢.
_________
١ بغية الوعاة "ط. مصر، ١٣٢٦هـ"، ص ٣٠١ وما بعدها.
٢ المصدر نفسه.
1 / 17
ثانيا: منهج الأنباري النحوي في كتاب أسرار العربية
يعد ابن الأنباري من متأخري النحاة، وهو أحد أعلام المدرسة البغدادية -كما هو معلوم- فطبعيّ أن يكون هذا الرجل -بتأخره، وذكائه، وإخلاصه في طلب العلم، وباستقامته التي عرف بها طول حياته- أن يتحرر من الأهواء، وأن ينهج النهج الذي يتفق مع قناعاته، واستنتاجاته التي توصل إليها بعد طول مدارسة ومعاناة. وقد رأينا ابن الأنباري في كتابه المشهور:
مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين، ذا عين بصيرة، وقوة في عرض حجج كل من البصريين والكوفيين، وغيرهم، ومن ثم تفنيد الحجج التي يراها بعيدة عن الصواب، وتأييد الحجج التي يقتنع بها، مبينًا في كثير من الأحيان سبب تبنيه لرأي دون رأي، ولحجة دون أخرى، بطريقة علمية موضوعية مقنعة. وهو إذ وافق البصريين في أكثر مسائل الخلاف، لا لانحيازه إليهم -كما يرى بعض الدارسين١؛ بل لأنه رأى آراءهم أكثر سدادًا، وحججهم أكثر إقناعًا؛ وعلى كل فإليه يعود الفضل في إظهار أسس كل مذهب من المذهبين؛ ولا يضيره بعد ذلك اقتناعه بآراء أحد الفريقين، ولا سيما إذا وجده الأنسب، والأقرب إلى الصواب وفق اعتقاده.
وقد سار أبو البركات في كتاب أسرار العربية على النهج نفسه من حيث العرض، والتفنيد، والتأييد، وإن كان في أكثر الأبواب يؤيد آراء البصريين؛ لكونها أكثر إقناعًا، وأقل تكلُّفًا.
وأما موضوع كتاب أسرار العربية بشكل عام، فهو العلل النحوية والإعرابية، وأسباب تسمية مسميات كثير من المصطلحات النحوية، وأسباب تسمية الحركات، وصيغ الجموع، وغير ذلك. وكان ابن الأنباريّ في منتهى
_________
١ راجع: الوسيط في تاريخ النحو العربي، ص ١٣٧.
1 / 18
الذكاء والعبقرية في توليد التساؤلات والإجابة عنها حتى يقرب المادة من نفوس الناشئة، وييسر سبيل دخولها إلى الأذهان.
وجاء هذا الكتاب في أربعة وستين بابًا، تناولت ما له صلة في موضوع بحثه في أبواب كتب النحاة. ولم يكن أبو البركات يستطرد على عادة النحاة، بل كان يطرح التساؤل، ثم يجيب عنه مباشرة بعبارات مركزة واضحة؛ كما جاء في باب: ما الكلم؟ على سبيل المثال: فما الفرق بين الكَلِم والكلام؟ قيل: الفرق بينهما أن الكَلِمَ ينطلق على المفيد، وعلى غير المفيد؛ وأما الكلام، فلا ينطلق إلا على المفيد خاصة١.
وأحيانًا، كان يولد التساؤلات التي قد تدور على ألسنة الناشئة والمتبحرين على حد سواء، ثم ينبري للإجابة عنها مستطردًا استطرادًا مركّزًا هو أقرب إلى التفريغ منه إلى الاستطراد؛ ليوضح الفكرة، ويعلل صحة ما ذهب إليه بشاهد من الشعر، أو النثر، كما جاء في باب التثنية على سبيل المثال:
إن قال قائل: ما التثنية؟ قيل: التثنية صيغة مبنية للدلالة على الاثنين؛ وأصل التثنية العطف؛ تقول: قام الزيدان، وذهب العمران؛ والأصل: قام زيد وزيد، وذهب عمرو وعمرو إلا أنهم حذفوا أحدهما، وزادوا على الآخر زيادة دالة على التثنية للإيجاز والاختصار؛ والذي يدل على أن الأصل هو العطف أنهم يفكون التثنية في حال الاضطرار، ويعدلون عنها إلى التكرار؛ كقول القائل:
كأنَّ بين فَكِّهَا والفَكّ ... فَارةَ مِسكٍ ذُبحت في سُكِّ٢
وأحيانًا، كان يصل إلى التعليل من دون استشهاد يذكر بآية من القرآن الكريم، أو من الحديث الشريف، أو من الشعر، وإنما يلجأ إلى الاستنتاج والمنطق، كما نلحظ ذلك في باب: العطف، على سبيل الذكر لا الحصر:
إن قال قائل: كم حروف العطف؟ قيل: تسعة؛ الواو، والفاء، وأو، ولا، وثم، وبل، ولكن، وأم، وحتى. فإن قيل: فلم كان أصل حروف العطف الواو؟ قيل: لأن الواو لا تدل على أكثر من الاشتراك فقط، وأما غيرها من الحروف، فتدل على الاشتراك، وعلى معنى زائد على ما سنبين. وإذا كانت هذه الحروف تدل على زيادة معنى ليس في الواو؛ صارت الواو بمنزله الشيء
_________
١ أسرار العربية، ص ٣٥.
٢ أسرار العربية، ص ٦١.
1 / 19
المفرد، والباقي بمنزلة المركب، والمفرد أصل للمركب١.
وأما طرق كتاب: أسرار العربية، فقد استقى أبو البركات كثيرًا من مادته من كتابه: الإنصاف في مسائل الخلاف، الذي أشرنا إليه، ومن كتب البصريين والكوفيين على السواء؛ وكثيرًا ما كان يشير إلى ذلك بقوله: "وقد أوضحنا ذلك في مسائل الخلاف"٢ أو "وقد أوضحنا ذلك في المسائل الخلافية"٣، ونحو ذلك.
وأما أسلوبه في كتابه، فكان أسلوبًا سلسًا، سهلًا، واضحًا، بعيدًا عن التعقيد، شبيهًا إلى حد ما بأسلوب أبي محمد الحريري٤ في كتابه: شرح ملحة الإعراب، فلا تحس بالجفاف النحوي والمنطقي الذي تجده في كثير من كتب النحو التي كتبت في ذلك العصر. والقارئ في كتاب أبي البركات الأنباري -أسرار العربية- لايشعر بالملل والسأم الذي يساور من يقرأ أكثر تلك الكتب المشار إليها، والمدونة في ذلك العصر وما قبله، وما بعده؛ لأنها محشوة بالغريب، متسمة بالتعقيد، متصفة بكثرة الاستطرادات التي تجعل القارئ بعيدًا عن التركيز والاستيعاب.
وخلاصة القول: إنَّ كتاب أسرار العربية كتاب متميز في موضوعه، متميز في طريقة عرضه لمادته، متميز، في وضوحه، وسهولته، متميز في حاجة المبتدئين والمتخصصين إليه -على حد سواء- نظرًا لأهميته. ويمكن أن يكون هذا الكتاب وما شابهه باكورة فن جديد يمكن أن يطلق عليه اسم: الفلسفة النحوية، قوامه البحث في العلل النحوية وتأويلاتها وتمحيصها وبيان الراجح من المرجوح من حجج النجاة، وإبداء الرأي في تلك العلل، وبيان الأسس التي قامت عليها، وهل هي أسس منطقية أو لغوية في ضوء الدراسات اللغوية المعاصرة. ويكون لهذا الفن من الفائدة ما فيه على طريق توحيد المصطلحات النحوية، وإزالة الخلافات القائمة بين أصحاب المذاهب النحوية بعد اعتماد الراجح، وتجاوز المرجوح، ولا سيما ونحن نسعى إلى خدمة لغتنا، وتسهيل سبل تعلمها وإتقانها على مختلف الأَصعدة.
_________
١ أسرار العربية، ص ٢١٩.
٢ أسرار العربية، ص ٧٣.
٣ أسرار العربية، ص ١٠٥.
٤ الحريري: هو القاسم بن علي الحريري البصري ولد سنة ٤٤٦هـ؛ من آثاره: ملحة الإعراب، وشرح ملحة الإعراب، ودرة الغواص في أوهام الخواص، والمقامات، وغيرها. مات سنة ٥١٦هـ. نزهة الألبّاء ٣٨١، وإنباه الرواة ٣/ ٢٧.
1 / 20
ثالثا: عملنا في الكتاب
يتجلى عملنا في الكتاب في الجوانب التالية:
أولا: في المتن. ثانيا: في الحاشية. ثالثا: في المسارد الفنية، وسنلقي الضوء على كل منها بشيء من الإيجاز.
أولا: في المتن
أ- التحقيق والمقابلة:
حيث قمنا بمقابلة النسخة المطبوعة بدمشق بتحقيق الأستاذ محمد بهجة البيطار عضو مجمع اللغة العربية بدمشق؛ والنسخة من مطبوعات ذلك المجمع لعام ١٩٥٧م، بنسخة خطية محفوظة في مكتبة الأسد الوطنية برقم: ١٧٥٦عام.
وصف المخطوطة وأهميتها في التحقيق:
عدد أوراقها ٩٠ ورقة؛ قياس الورقة: ٢١.٥ × ١٥سم. وتتفاوت الصفحات في عدد الأسطر غير أنها تزيد على العشرين.
وكذلك يتفاوت عدد الكلمات في الأسطر غير أنها لا تقل عن تسع كلمات، ولا تزيد على ثلاث عشرة كلمة؛ والأغلب بين عشر إلى اثنتي عشرة كلمة في السطر الواحد.
أول المخطوط قوله: "الحمد لله كاشف الغطاء ومانح العطاء ذي الجود والأنداء والإعادة والإبداء ... ".
وآخر المخطوط قوله في شرح قول الشاعر:
غداة طغت علماء بكر بن وائل ... وعجبنا صدور الخيل نحو تميم
يريدون: على الماء، وهذا كله ليس بمطرد على القياس، وإنما دعاهم إلى ذلك كثرة الاستعمال وهو من الشاذ الذي لا يقاس عليه. يلي ذلك اسم
1 / 23
الناسخ محمد بن خلف بن راجح بن بلال المقدسي، فتاريخ الفراغ من النسخ سنة ٦١٦هـ، ولم يذكر مكانه.
وقد كتبت هذه النسخة بخط نسخي قديم جميل مقروء، أهمل الناسخ نقط بعض كلماتها. وقد كتبت كلمة: باب، في أول كل بحث بخط كبير. وترك للمخطوط هامش بعرض ٥/ ٢سم، ندر أن علق عليه. وقد أثرت الرطوبة فيه، فاحترق المداد في معظم الصفحات، فأثرت في المخطوط، واتّسخ.
وقد جاءت هذه النسخة كاملة، أفادتنا كثيرًا في تصويب بعض الهفوات والسقطات التي وقعت في النسخة المطبوعة سواء أكانت سهوًا من الناسخ، أو غلطًا من الطابع. وقد أثبتنا في المتن الكلمات الساقطة من المطبوعة والمستدركة من النسخة الخطية، وفي الوقت نفسه، أشرنا إلى مواضع الزيادة أو النقص في النسخة الخطية زيادة في الفائدة. وحاولنا قدر المستطاع أن نخرج نص المتن كما أراده مؤلفه، وبما تسمح به المنهجية العلمية في مجال التحقيق ومقابلة النصوص. وقد أشرنا إلى النسخة الخطية بحرف: س؛ كناية عن نسخة مكتبة الأسد، وبحرف: ط، للنسخة المطبوعة المعتمدة.
ب- وضعنا عناوين فرعية في أعلى المباحث، تيسر على الدارسين سبيل الوصول إلى مبتغاهم من دون عناء يذكر زيادة في الخدمة، وتوخيًّا للفائدة المرجوة؛ وأثبتنا هذه العناوين بين مركنين في منتصف السطر.
ج- ضبطنا من الحروف ما يجب ضبطه بالحركات المناسبة، ووضعنا علامات الترقيم في مواضعها المناسبة؛ لأن كثيرًا من الدارسين يعانون كثيرًا في أثناء دراسة النصوص، واستيعابها؛ سواء أكانت نحوية أو غير نحوية، إذا لم تكن علامات الترقيم مثبتة في مواضعها بشكل صحيح. وبات معلومًا لدى الدارسين أن علامات الترقيم تؤدي دورًا مهمًّا في ضبط المتن، وتسهل على الطالب فهمه واستيعابه من دون عناء يذكر إذا كان من ذوي الاختصاص.
د- قمنا بتبحير الأبيات الشعرية، وأثبتنا اسم البحر بين مركنين فوق البيت إلى جهة اليسار.
هـ- أكملنا الأبيات الشعرية التي لم يثبت المؤلف في المتن إلا صدرها، أو عجزها، وأثبتنا ذلك بين مركنين وأشرنا إلى ذلك في الحاشية.
ثانيا: في الحاشية
أ- قمنا بتخريج الآيات القرآنية تخريجًا كاملًا، ذاكرين رقم السورة، ثم اسمها، ثم رقم الآية، وهل هي كاملة أو جزء من آية، وأخيرًا مكية هي أم
1 / 24
مدنية واستعملنا الرموز التالية لمثل هذه الآية: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ .
س: ١ "الفاتحة: ١، مك": سورة: الفاتحة؛ الآية الأولى، مكية.
ب- قمنا بتخريج الأحاديث الشريفة الواردة في المتن، وذكرنا المصادر المعتمدة في التخريج.
ج- نسبنا الشواهد الشعرية إلى قائليها، إذا توصلنا إلى معرفة القائل، وإلا ذكرنا عبارة: لم ينسب إلى قائل معين.
د- ذكرنا ترجمة مختصرة للأعلام الواردة أسماؤهم في المتن؛ سواء أكانوا شعراء، أم أدباء أم نحاة، أم لغويين، أم مفسرين، أم إخباريين، وإذا لم نجد له ترجمة وافية، ذكرنا عبارة: لم نصطد له ترجمة وافية.
هـ- شرحنا المفردات الغريبة في الشاهد الشعري، ثم عقبنا بذكر موطن الشاهد -في البيت- فوجه الاستشهاد بشيء من الإيجاز الذي يفي بالغرض الذي قصد إليه المؤلف من دون التوسع في ذكر مختلف الآراء التي لا يتسع المقام -هنا- لسردها.
ثالثا: في المسارد الفنّيِّة:
صنعنا للكتاب عشرة مسارد؛ كل منها مختص بجانب محدد؛ لتمكن الباحث أو الدارس من العودة إلى ما هو بحاجة إليه، بسرعة وسهولة؛ وهذه المسارد هي:
أولًا: مسرد الآيات القرآنية الكريمة.
ثانيًا: مسرد الأحاديث النبوية الشريفة.
ثالثًا: مسرد الأمثال.
رابعًا: مسرد الأشعار.
خامسًا: مسرد الأعلام.
سادسًا: مسرد القبائل والجماعات.
سابعًا: مسرد البلدان
ثامنًا: مسرد المصادر والمراجع.
تاسعًا: مسرد الموضوعات.
عاشرًا: مسرد المسارد.
1 / 25
مصطلحات ورموز معتمدة في التحقيق والتعليق:
س: سورة، ورمزنا بها في الحاشية لنسخة مكتبة الأسد الخطية.
ط: رمزنا بها إلى النسخة المطبوعة المعتمدة في التحقيق.
تحق: اختصار لكلمة تحقيق.
مد: مدنية.
مك: مكية.
﴿﴾ المزهران لحصر الآيات.
*** لحصر رقم الهامش، للتعليق عليه.
" " لحصر الأقوال والأمثال التوضيحية التي ذكرها المؤلف.
[] المركنان لحصر اسم البحر الشعري، والعناوين الفرعية.
/ / لحصر أي زيادة أو نقص في النسخة ط والنسخة س.
() لحصر أكثر من كلمتين زيادة أو نقصًا في النسختين المذكورتين.
[] لحصر زيادة عدة عبارات في النسختين المذكورتين أو نقصها.
وفي الختام أتضرع إلى الله ﷿ أن يوفقنا إلى ما فيه خيرنا وصلاحنا في الدنيا والآخرة، وأن يتقبل منا صالح أعمالنا خالصة ابتغاء مرضاته، وأن يمن علينا بدوان الصحة والعافية؛ لنتمكن من مواصلة المشوار على طريق تحقيق كنوز الآباء والأجداد وبعثها على أسس علمية، ومنهجية واضحة في زمن غدت فيه كتب التراث عرضة للتشويه، والتحريف، والتصحيف على أيدي كثيرم من المراهقين الذين يلهثون وراء الشهرة، أو يبتغون لقمة العيش بتكليف من بعض أصحاب دور النشر الذين يستغلون حاجتهم المادية، فيعبثون بهم، كما يعبثون هم بهذا التراث الخالد. فيسارعون إلى إعادة صف النسخ المطبوعة، أو المخطوطة منه صفًّا ممسوخًا مملوءًا بالأغلاط المطبعية، فضلًا عن التصحيف والتحريف اللذين يقعان في نسخهم التي تحمل أسماءهم، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعًا؛ همهم القليل من المال الذي يحصلون عليه، ورؤية أسمائهم على أغلفة تلك الكتب التي ستكون شاهدة عليهم لا لهم يوم القيامة. والأمثلة على ما ذكرت أكثر من أن تحصى، ولا رأي لمن لا يطاع، والحمد لله أولًا وآخرًا.
1 / 26
الباب الأول: باب علم ما لاكلم؟
...
1 / 29
بسم الله الرحمن الرحيم
ربِّ يسر وتمم بالخير١
قال الشيخ الفقيه الإمام العالم٢ كمال الدين (أبو البركات) ٣ عبد الرحمن بن محمد بن أبي سعيد الأنباري النحوي ﵀ ٤: الحمد لله كاشف الغطاء، ومانح العطاء، ذي الجود والإيداء٥، والإعادة والإبداء، المتوحد بالأحَدِيَّة القديمة المقدسة عن الحين٦ والفناء، أهل٧ الصفات الأزلية المنزهة عن الزوال والفناء، والصلاة على محمد سيد الأنبياء، وعلى آله، وأصحابه الأصفياء.
وبعد، فقد ذكرت في هذا الكتاب (الموسوم بـ: أسرار العربية) ٨، كثيرًا من مذاهب النحويين المتقدمين والمتأخرين، من البصريين والكوفيين، وصححت ما ذهبت إليه منها بما يحصل به شفاء الغليل٩، وأوضحت فساد ما عداه بواضح التعليل، ورجعت في ذلك كله إلى الدليل، وأعفيته من الإسهاب والتطويل وسهلته على المتعلم غاية التسهيل، والله تعالى ينفع به، وهو حسبي ونعم الوكيل.
_________
١ في "س" وأَعن.
٢ تالفة في "س".
٣ ما بين القوسين سقط في "س".
٤ تالفة في "س".
٥ الإيداء: المعونة.
٦ الْحَين: الهلاك.
٧ في "س" المتفرّد بالصفات.
٨ سقطت من "س".
٩ الغليل: شدة العطش؛ والمراد -هنا- ما يجد الإنسان فيه بغيته.
1 / 33
الباب الأول: باب علم: ما الكَلِم؟
إن قال قائل: ما الكَلِم؟ قيل: الكلم اسم جنس؛ واحده١ "كلمة"؛ كقولك: نبقة٢ ونبق، وَلَبِنَة وَلَبِن وثَفِنة وثفِن، وما أشبه ذلك. فإن قيل: ما الكلام؟ قيل: ما كان من الحروف دالًّا بتأليفه على معنى يحسن السكوت عليه، فإن قيل: فما الفرق بين الكلم والكلام؟ قيل: الفرق بينهما أن الكَلِم ينطلق على المفيد، وعلى غير المفيد؛ وأما الكلام، فلا ينطلق إلا على المفيد خاصة، فإن قيل: فَلِمَ قلتم: إن أقسام الكلام ثلاثة، لا رابع لها؟ قيل: لأنَّا وجدنا هذه الأقسام /الثلاثة/٣ يعبر بها عن جميع ما يخطر بالبال، ويتوهم في الخيال ولو كان ها هنا قسم رابع؛ لبقي في النفس شيء، لا يمكن التعبير عنه، ألا ترى أنه لو سقط أحد٤ هذه الأقسام الثلاثة؛ لبقي في النفس شيء، لا يمكن التعبير عنه بإزاء ما سقط؟ فلما عبر بهذه الأقسام عن جميع الأشياء؛ دل على أنه ليس إلا هذه الأقسام الثلاثة.
فإن قيل: لِمَ سمي الاسم اسْمًا؟ قيل: اختلف فيه النحويون، فذهب البصريون إلى أنه سُمِّي اسْمًا لوجهين؛ أحدهما: أنه سما على مسماه، وعلا على ما تحته من معناه؛ فسمي اسمًا /لذلك/٥. والوجه الثاني: أن هذه الأقسام الثلاثة، لها ثلاث مراتب؛ فمنها ما يخبر به، ويخبر عنه، وهو الاسم؛ نحو "زيد قائم"، ومنها ما يخبر به، ولا يخبر عنه، وهو الفعل؛ نحو "قام زيد"، ومنها ما لا يخبر به، ولا يخبر عنه، وهو الحرف؛ نحو "هل وبل" وما أشبه ذلك، فلما كان الاسم يخبر به، ويخبر عنه، والفعل يخبر به، ولا يخبر عنه،
_________
١ في "س" واحدته.
٢ نبقة: مفرد نبق: وهو دقيق يخرج من لب جذع النخلة، وحمل السدر.
٣ سقطت من "س".
٤ في "ط" آخر، والصواب ما ذكرنا من "س".
٥ سقطت من "س".
1 / 35