وفيما كانت العربة سائرة بهما في شارع الجزيرة المستدير، المظلل بأشجار اللبخ المتعقد فوق الشارع مثل عقد البناء، وصلت إلى الجبلاية، فلاحت منهما التفاتة فرأيا عند مدخل ذلك التل الاصطناعي عربة مقفلة من عربات حريم أصحاب المناصب من الأتراك، أمامها فرسان من الخيل الكبيرة الروسية الأصل. وكان الظلام قد سدل نقابه، والعربة لم يضئ قنديلها. وكان السكوت مستوليا على ذلك التل لا يسمع فيه إلا حفيف شجر السرو المحدق به، وقرع الأرض بأقدام الجوادين المرة بعد الأخرى، ولم يشاهدا أحدا في العربة ولا بالقرب منها، وباب الجبلاية يستطرق إلى دهاليز اصطناعية في ذلك التل، فقال شفيق لرفيقه: ما رأيك بهذه المركبة؟ فتبسم عزيز وهز رأسه ولم يبد جوابا، فعاوده شفيق السؤال بلهفة، فقال له: إن لهذه العربة حكاية سأقصها عليك عندما نبعد من هذا المكان. فاشتاق شفيق إلى استطلاع الخبر، فلما بعدا يسيرا سأله عن القصة، فقال: إنها عربة أحد كبار الأغراب، وأصله من جهات المورا، وقد جاء والده هذه الديار برفقة إبراهيم باشا عند عوده من محاربة تلك الجزيرة، فأقام في مصر وتزوج فيها، فولد له ابنه هذا، وعاش تحت كنف الحكومة، وترقى إلى رتبة باشا، واكتسب مالا طائلا، وله ابنة وحيدة بارعة في الجمال تركب هذه العربة للنزهة غالب الأحيان، فأحبها أحد شبان العاصمة - وهو صديق لي - ولما طلبها من والدها لم يجب طلبه، بناء على أن الابنة لم تحب أخلاقه، فأضمر لها السوء. وقد أخبرني في صباح هذا اليوم أنه تواطأ مع سائق العربة أن يأتي بها متأخرا إلى هذا المكان للانتقام منها. ولا أخفي عليك أنها أخطأت في رفضه؛ لأنه شاب جميل كريم، راتبه ثلاثون جنيها ينفقها كلها على أصدقائه، فإذا حضرهم في قهوة أو معمل جعة (بيرا) لا يدع أحدا منهم يدفع بارة، وهو لطيف المعشر للغاية، يضحك الثكلى للطف حديثه ومجونه.
فاشتعل شفيق غيظا لتلك القصة، والتفت إلى صديقه قائلا: هل هو الآن في ذلك المكان يريد بالفتاة سوءا؟ يا للدناءة! ثم أمر السائق أن يحول الأعنة نحو الجبلاية، فأراد عزيز منعه بقوله ما لنا وللتداخل في أعمال الناس؟ فلم يصغ إليه، فاقتربا من الجبلاية بأسرع من لمح البصر، فسمعا صوتا لطيفا مرتجفا يتخلل حفيف الأشجار يقول: خف من الله يا رجل. أليس عندك شرف؟ فنزل شفيق من العربة حالا وطلب جهة الصوت داخل ذلك التل والمكان مظلم، فأنار عودا كان في جيبه، فتراءى له في أحد الدهاليز المظلمة المعوجة شبحان؛ أحدهما امرأة والآخر رجل ملثم. أما الفتاة فحالما رأت النور نادت بأعلى صوتها: أنقذني من هذا الخائن بحرمة الشرف والشهامة. فلم تكن لحظة حتى كان شفيق بينهما وفي يده عصا ضرب بها الرجل ضربة أخطأته؛ لأنه طلب الفرار مسرعا، فناداه بقلب لا يهاب الموت: إلى أين تفر أيها النذل الذميم؟ فلم يسمع له صوتا ولا رآه لشدة الظلام في تلك المغارة، ثم سمع وقع جواد فعلم أنه طلب الفرار. أما تلك الفتاة فنادت بتأثر عميق: لا عدمت الشهامة رجالها! من أرسلك أيها الرجل السماوي؟ أين أنت؟ وكان شفيق قد رجع ليأتي بمصباح من العربة؛ لأن الظلام كان مدلهما هناك، فلم يفهم مقالها، فلما عاد بالمصباح رأى فتاة ترتعد خوفا وهي في زي نساء الأتراك، وعلى رأسها اللثام (اليشمك) تحته وجه كأنه البدر بهاء، وعينان سوداوان براقتان قد ملأتهما دموع الخجل والوجل، ووجنتان قد كللهما الاصفرار، فأمسكت يده بيد كادت تذوب لطفا قائلة: لقد أنقذتني من الموت والعار. جزاك الله عني خيرا. أما شفيق، فقد خفق قلبه خفوقا لم يكن يعرفه قبلا، وغلب عليه الحياء حتى تلعثم لسانه عن الكلام، ولكنه تجلد وقال لها: لا بأس عليك، أيتها السيدة المصونة، ولا عاش من أراد بك سوءا. هلم إلى عربتك لنسير بك آمنة إلى منزلك.
أما هي فلم تنفك ممسكة يده ضاغطة عليها مع ما كانت فيه من الرعدة والارتجاف مطرقة خجلا لا تستطيع رفع نظرها إليه، فلما وصلا للعربة لم يجدا سائقها؛ لأنه كان قد خاف تبعة ما جنته يداه، وأركن إلى الفرار، فأدخلها إلى العربة، ونادى سائق عربة عزيز، وأجبره أن ينير مصابيح تلك المركبة، ويسوقها إلى حيث تأمره الفتاة، ثم استظل من النافذة وسألها إذا كانت في خير، أو تحتاج إلى شيء، فأشارت بعينيها وملامح وجهها أنها في غاية الراحة، فعاد إلى عربة عزيز، فإذا بصديقه لا يزال في مكانه كأنه قطعة من خشب، ولكنه حالما رآه أظهر اهتماما، ونزل من العربة ويده الواحدة على نظارته لئلا تسقط، وفي الأخرى سيكارته المعهودة، وقال بلهفة: هل بك من بأس يا عزيزي شفيق؛ فقد أشغلت بالي؟ ماذا فعلت؟ وإلى أين ذهبت؟ فقد كان في عزمي أن أنزل لمساعدتك، لكني أعلم أنك شهم باسل لا تحتاج إلى مثلي، فبقيت بانتظارك هنا، فأين ذلك الخائن؟ فنظر شفيق إليه نظرة الاحتقار ولم يبد جوابا، فقال له: أين سائق عربتنا؟ فقال له: ذهب لسوق العربة الثانية، وأنا أسوق هذه، فضحك عزيز ضحكة الخجل وقال: هل لك معرفة بسوق العربات يا شفيق؟ فأجاب مبتسما: نعم يا عزيزي. أما قيل: «ألبس لكل حالة لبوسها.» ولم يزد. فسارت عربة الفتاة أولا، ثم تبعتها الأخرى، وما زالوا سائرين وقد استولى عليهم السكوت حتى تجاوزوا جسر قصر النيل (الكوبري)، فوقفت العربة الأمامية بغتة، فاضطرب شفيق لذلك، ونزل يبحث عن الداعي لوقوفها. وكان ذلك في شارع مضيء بالأنوار الغازية التي مزقت بقوة نورها حجاب الظلام عن تلك الأماكن، فأسرع شفيق حتى اقترب من العربة، واستطل من نافذتها يبحث بنظره ليدرك السبب، فوجد الفتاة جالسة وقد هدأ روعها من الاضطراب الذي اعتراها في الجبلاية، وأبرقت أسرتها، وأشرق وجهها، فلما رأته أمسكت بيده ضاغطة عليها، وقالت له والخجل يحول بينها وبين التأمل في وجهه: اعلم يا سيدي أن حياتي وشرفي هذه الليلة كنت خسرتهما لولا شهامتك وشرف مباديك، فأنا مديونة لك بهما. فخجل شفيق ولم يجب، وقد توردت وجنتاه، وأندى جبينه، فقالت له: هل لك أن تخبرني عن اسمك لأذكر أمام والدي ما أبديت نحوي من الشهامة والفضل.
فأجاب شفيق بصوت رقيق تتخلله شعائر الغرام ونغمة الحب - والله أعلم بما كان له من التأثير الخفي على قلب تلك العذراء: إني أيتها السيدة المصونة لم أفعل إلا ما أوجبته علي الإنسانية، فلست أنتظر مكافأة سوى ألا تذكري هذا الأمر أمام أحد من العالم؛ صيانة لشرفك، حتى ولا أمام والدك؛ لئلا يوقع فيك شبهة أو مظنة.»
فبادرته: معاذ الله أن أقصد بكلامي مكافأتك؛ لأنه أمر لو أردته ما استطعت القيام به، ولكن ذكر الجميل فرض على الإنسان، وأي فضل أعظم من الإنقاذ من العار والموت، فقال وقد غلب عليه الخجل حتى كاد يمتنع عليه الكلام: إني لم أفعل ما يستحق هذا الثناء، وإنما عواطفي قادتني بأمر من الله لأنقذ ملاكا جسمانيا من التلطخ بحمأة العار، وما ذلك إلا لحسن حظي.
قالت: وهل من عبارة تفي بأداء الشكر لتلك العواطف الشريفة؟ وأما حسن الحظ فهو لي؛ لأني ربحت بك حياتي، أو بالأحرى شرفي الذي هو أعز من حياتي.
وفيما هما بأثناء الحديث سمعا عزيزا ينادي: ما بالك يا شفيق؟ لقد أطلت بنا الوقوف وقد حان ميقات العشاء، فهيا بنا.
فقالت الفتاة: ومن ذا الذي يتكلم؟
أجابها شفيق: صديق لي رافقته للنزهة على أن نسير معا إلى احتفال فتح الخليج هذه الليلة.
قالت: أحس أني أزعجتكما، فأتقدم إليك أن تجيبني على سؤالين ثم تعود إلى صديقك.
Halaman tidak diketahui