قال بخيت: أقول لك من هو؟ قال: قل، قال: لا أقول حتى تسألني ذلك بإلحاح . فاغتاظ عزيز وصرخ قائلا: قل بالله قل، قال: هو سيدي شفيق. فوثب عزيز من كرسيه وقد امتقع لونه، وارتعدت فرائصه، وقال: أحقيق ذلك يا بخيت؟
قال: نعم، وحياة شفيق إني لم أقل إلا الصحيح، ومع ذلك تمهل ريثما ترى جميع العائلة آتية معا وفيها والدا شفيق، وأخبرك شيئا آخر أظنه لا يسرك، وهو أن شفيقا ابن خال فدوى؛ أي إن أمها وأباه أخوان.
فاسودت الدنيا في عيني عزيز، وتحير بين أن يصدق كلام بخيت أو يكذبه بالنظر لغرابته، فلبث ينتظر عود الباشا ليرى صدق ذلك رأي العين، فدخل غرفة تشرف على الشارع، وجلس إلى النافذة ينتظر عودهم.
الفصل الثالث والتسعون
على الباغي تدور الدوائر
فلما كان الغروب رأى جمهورا كبيرا قادما، فحقق نظره فإذا بشفيق إلى جانب فدوى يتحادثان وقد حمل كل منهما طاقة من الأزهار يتبادلان منها الأقمار وهما في غاية السرور، والباشا ماش إلى جانب شفيق فرحا، فتحقق لديه أن فدوى قد خرجت من يده، ولم يعد يمكنه الحصول عليها، ثم تذكر الصك الذي أعطاه للباشا، فاشتعل جسمه وأحس كأنك تصب عليه ماء تارة غاليا، وطورا باردا، ثم سمع وقع أقدامهم على السلم فلم يعد يتمالك نفسه عن الارتعاش، فذهب إلى سريره وهو ينتفض من البرد والقشعريرة، ثم عقب ذلك حمى شديدة أخذت تتعاظم حتى بلغت بمدة ساعتين درجة 41° س، فبادر صاحب الفندق إلى استدعاء الأطباء الموجودين في بعلبك، فعقدوا مشورة طبية فإذا هو في حالة الخطر الشديد يهذي بكلامه غائبا عن الصواب.
فشاع الخبر في الفندق - وكان الباشا وعائلته قد عرفوا بمجيء عزيز من بخيت. وهذا لم يكن لديه يوم أكثر سعادة من ذلك اليوم - فلما سمعوا بمرضه تراكضوا لمشاهدته، فلم يأذن الأطباء بالدخول، بدعوى أن المريض في حالة لا تسمح لأحد بالدخول عليه، فلما علم شفيق بذلك تكدر لما ألم بذلك الشاب في ديار الغربة؛ لأنه خشي أن تكون تلك الضربة قاضية، وأما أحمد وبخيت فكانا مسرورين بذلك؛ لأنهما اتفقا على كره ذلك الشاب والانتقام منه ، لما عرفا من دسائسه وخيانته، وأما الباشا فبهت صامتا يراجع في ذاكرته حكاية الصك، وما قاساه ذلك الشاب من الأسفار والذل طمعا بنيل ابنته، وكيف أنه استولى على كل ماله، وكيف كانت نهاية أمره من الفشل الذي أورث له هذا الداء الشديد.
وأما شفيق، فكان أشد الجميع أسفا عليه؛ لأنه علم أن سبب مرضه إنما هو الفشل وخيبة الأمل، فلم يستطع طعاما في ذلك المساء قط، وقضى الجميع معظم ذلك الليل في حديث عزيز ومرضه. وفيما هم في ذلك إذ جاءهم خادم الفندق يقول: إن العليل يود مقابلتهم غير مبال بوصية الطبيب. فأسرع شفيق والباشا إلى غرفته، وحالما دخلا وقع نظرهما عليه وهو متوسد في فراشه، وقد علا وجهه الاحمرار من اشتداد الحمى عليه.
أما هو فلما سمع وقع خطواتهما حول وجهه نحوهما، وحالما رآهما امتلأت عيناه بالدموع، ولم يكن يستطيع الحركة، فأشار إليهما بأهداب عينيه، فاقتربا منه باكيين، ووقفا بإزاء سريره صامتين لئلا يزعجاه بالكلام. وكان الطبيب في الغرفة ساهرا من أجله، فأشار عزيز إليه أن يخرج قليلا، فخرج ولم يبق في الغرفة غيره والباشا وشفيق، فأومأ إليهما وقد ضاق تنفسه من اشتداد الحمى أن يجلسا، فأخذ كل منهما كرسيا وجلسا أمام السرير ينظران إليه نظرة الأسف، ولا سيما شفيق، فإنه نسي كل سيئاته، وكاد ينفطر قلبه شفقة عليه.
وبعد بضع دقائق، أعاد عزيز نظره إليهما، وكان يريد التكلم ولا يستطيعه، فسأله شفيق: هل يحتاج إلى شيء؟ فأشار إليه بيده أن ينتظر ريثما يهدأ روعه فيخاطبه، فسكت، ثم مد عزيز يده إلى شفيق، فمد شفيق يده إليه وأمسكه، فأحس بارتجاف شديد، ومد يده الأخرى فأمسكه شفيق باليد الأخرى، فتوكأ عزيز على يدي شفيق يريد الجلوس فلم يستطع، فوقف الباشا وأسند ظهره وأجلساه وجعلا الوسائد وراء ظهره، فجلس وما زال قابضا على يدي شفيق، ثم جذبه إليه حتى دنا منه، فضمه إلى صدره وجعل
Halaman tidak diketahui