وبعد مسير نصف ساعة، وصلت العربة إلى طريق طويل خارج المدينة ينتهي ببناء فيه المنارة التي تهتدي بها السفن إلى مينا بيروت، وشاهدوا على يمينهم قبل وصولهم إلى المنارة بابا كبيرا عاريا من كل زينة ، فدخلت العربة إلى بقعة محاطة بسور، وفي صدرها باب آخر وقفت العربة عنده، فانتصب خادم من خدمة المنزل عليه لباس أهل لبنان من السراويل المصنوعة من البفتا المصبوغ بلون بارودي زاه، وعلى رأسه طربوش تونسي قصير عليه عمامة صغيرة من نسيج ملون يقال له: كوفية، فلما وقفت العربة عنده جاء الخادم وفتح الباب واستقبل الباشا، ودخل به في رواق يحفه من الجانبين حوضان مزروعان بأعشاب وأنجم من النبات. وفي نهاية ذلك الرواق باب خشب بدرابزون يؤدي إلى حديقة تشرف على البحر، والمنزل كله على مرتفع أشبه بتل كبير.
فلما وصلوا على آخر الرواق دخل الخادم في باب صغير على يمينه اتصل منه إلى مكتب الدكتور، وأنذره بمجيء الضيف، وسار في طريق أخرى إلى اليسار مرصوفة بالرخام يتصل منها إلى باب المنزل الحقيقي، وأخبر امرأة الدكتور بمجيء سيدة تركية، وكان قد أدرك أن هذه السيدة لا تقابل الرجال.
فخرج الدكتور واستقبل الباشا ودخل به مكتبته، وجاءت امرأته وهي قصيرة القامة، خفيفة العضل مثل زوجها، واستقبلت فدوى بكل ترحاب، ودخلت بها غرفة الاستقبال، فتأملت فدوى في ذلك البيت، فإذا هو متقن الفرش، ولكنه بسيط يشهد بسلامة ذوق صاحبه، وقد أعجبها على نوع خاص لطف السيدة امرأة الدكتور؛ لأنها كانت تنتظر أن تقابلها مثلما يقابل الإفرنج من لم يسبق لهم معرفة به.
أما هذه فقابلتها ورحبت بها كأنها تعرفها من زمن مديد، وأمرت بالقهوة وسائر معدات الترحاب، وبعثت إلى بناتها وعرفتهن بالسيدة فدوى، وجلس السيدات يتحادثن بأحاديث مختلفة حتى كادت فدوى تنسى كل أحزانها وهواجسها.
أما الباشا فدخل مكتبة الدكتور، فإذا هي كما يليق أن تكون مكاتب العلماء العاملين، ولكنه رأي الدكتور في لباس لم يكن ينتظر أن يراه فيه، وهو لباسه الإفرنجي المعتاد، ولكنه كان ملتفا فوقه بعباءة سوداء من ملابس البدو، وعلى رأسه بدل البرنيطة عراقية من المخمل زرقاء اللون، مزركشة بالقصب، تتدلى منها طرة من القصب.
فلما جلسا أخذ الدكتور يرحب بضيفه ترحابا عظيما، وأمر له بالقهوة والنارجيل، وأخذا يتجاذبان أطراف الحديث، فرأى الباشا في الدكتور اطلاعا تاما في أحوال السياسة وأحوال سورية خصوصا.
فمضى نصف النهار ولم يشعر الباشا به لاستئناسه بمضيفه، فلما دقت الساعة 12 هم بالذهاب، فأمسكه الدكتور ودعاه إلى الغداء، ولم يتركه حتى تغدى عنده، فمدت مائدة للسيدات، وأخرى للرجال، وكان كل ذلك مما يزيد تعجب الباشا بسعة اطلاع الدكتور على أخلاق الشرقيين وعوائدهم.
ولما جلسوا على المائدة قال الباشا: اعذرني يا حضرة الدكتور إذا تطفلت في سؤالك عما رغبك في عوائد الشرقيين، فرأيتك قد تخلقت بجميع أخلاقهم حتى إن طعامك هذا نفس طعامهم، فهل جعلته كذلك مراعاة لضيوفك أم تلك عادتك في بيتك؟
فقال الدكتور: إن تلك عادتي في سائر أيامي، فإني قد جئت هذه الديار وأقمت فيها واتخذتها وطنا لي، وأحببت أهلها محبتي لأولادي لأعيش معهم، وأقضي باقي هذه الحياة بين ظهرانيهم، ولا أنسى محبتهم لي وإكرامهم إياي، فلا غرو إذا أحببتهم محبة الوالد لأولاده، فإنهم يحبونني محبة الأولاد لوالدهم، فإذا قضيت بينهم فكأني قضيت في وطني وبين أهلي وإخواني.
فقال الباشا: أعجب بك من رجل كريم النفس، فقد بلغني عن محبة أهل هذه البلاد لك مثلما بلغني منك عنهم.
Halaman tidak diketahui