فسار بهم القطار من الصباح إلى الظهر، فوصلوا محطة الإسماعيلية وركبوا الترعة إلى بورت سعيد، وبعد مسير يومين في بحر الروم نزلوا ميناء بيروت، فأعجبهم موقعها عند سفح لبنان الشامخ الآكام، الذي لم يمنع ارتفاعه الهائل من اكتسائه بالأشجار النضرة على جبال تناطح السحاب. وكثيرا ما يكون السحاب مكللا لها. واتفق أن وصولهم كان في يوم رق أديمه، واعتل نسيمه، فبانت لهم قمم ذلك الجبل القديم العهد مكسوة بالثلج الأبيض الناصع، وكانت كل رباه الخضراء قد غسلها المطر الذي لازمها أسبوعا تاما، فأصبح له أبهج ما يكون من المناظر.
الفصل التاسع والخمسون
فندق بسول
فلما رست بهم الباخرة صباحا باكرا عند المينا، أمر الباشا الخدم أن يهتموا بإنزال الأمتعة، وأخذها إلى حافة الباخرة، وأمسك فدوى بيدها وأشار إلى تلك المناظر الطبيعية يريد إلهاءها بها، فقال: تأملي يا عزيزتي بهذه الآكام الممتدة مدى النظر على شواطئ هذا البحر، وسبحي الخالق العظيم الذي فجر الماء من أعلى قممها، فاكتست خضرة بهيجة بين أشجار وأعشاب تتخللها قرى صغيرة، كل قرية على أكمة أو في سفح أكمة؛ بيوتها بيضاء متفرقة بين الزرع كأنها أحجار كريمة على ديباجة خضراء، بل انظري إلى هذه المدينة الجميلة القائمة على مرتفعات لطيفة عند سفح هذا الجبل، وأمعني النظر في أبنيتها الشاهقة المختلفة الألوان، وفي سطوحها القرميدية مع ما يحدق بها من الحدائق؛ مما يجعلها بهجة للناظرين.
وكان الباشا يقول ذلك وينظر إلى وجه ابنته ليرى ما يكون منها، فإذا هي ساكتة لا تبدي جوابا، فظنها تتأمل في جمال ذلك المنظر، ثم جاء الخدم يخبرونه أنهم قد أنزلوا كل الأمتعة إلى القوارب، فنزل إلى قارب نظيف خاص لركوبهم ممسكا بيد فدوى. أما الخدم فنزلوا في قوارب الأمتعة، فمخرت بهم القوارب. أما قاربهم فوصل الشاطئ قبل الجميع، فنزل الباشا ووقف في انتظار وصول الأمتعة، ففرغ صبره ولم تصل، فأخذ ينظر إليهم عن بعد، وإذا بالقوارب واقفة في البحر لا تتحرك، فاشتغل باله، ثم مشت حتى وصلت إليه، فنزل الخدم وأنزلوا الأمتعة، فسألهم عن سبب تأخرهم، فقالوا: إن البحارة اتفقوا معهم على أجرة، فلما وصلوا منتصف الطريق أخلفوا وطلبوا زيادة فيها، ولم يكونوا يريدون المسير حتى يقبضوا ما يريدون، ولم يسيروا حتى نالوا ما أرادوا، فقال الباشا: لا بأس أعطوهم ما شاءوا وهيا بالأمتعة إلى فندق بسول على الشاطئ، فإننا نسبقكم إلى هناك، قالوا: حسنا، فصعد وابنته ملثمة على جاري العادة حتى التقوا بعربة فركبوا حتى نزلوا الفندق، فإذا به حسن الموقع لا تنفك الأمواج تضرب أساساته ليلا ونهارا، فهيأ لهم صاحب الفندق حجرة لمنامهم وأخرى للخدم، فلما دخلت فدوى الغرفة استقبلت المرآة في صدرها، فارتاعت لما رأت نحولها، فألقت بنفسها على السرير وقد غلب عليها البكاء، فأمسكت نفسها ما استطاعت.
وبعد الغسل وتغيير الثياب وشرب المنعشات، طلبت فدوى التوسد للاستراحة من وعثاء السفر، فنامت ونام والدها إلى الظهر، ثم استفاقوا يطلبون الطعام إلى غرفتهم، وبعد تناوله خرج الباشا ملتفا بقباء شتوي لمشاهدة غرف الفندق، فقابله أحد خدمه وذهب به إلى غرفة الاستقبال المطلة على البحر، فأشعل سيكارته وجلس بجانب النافذة يسرح نظره في ذلك البحر - وكان هادئا - وصوت أمواجه يلهي الفكر عن الهواجس، ويخفف الأكدار، فأخذ يتأمل في سفره وما فيه، وما وصلت إليه ابنته من الضعف والهزال.
الفصل الستون
ضياع رسم شفيق
أما فدوى فلبثت في الحجرة ترتب الثياب، وفيما هي تفتش في صندوقها عثرت على صورة شفيق، فخفق قلبها، فتناولتها وأخذت تتأمل فيها وتذرف الدموع مخاطبة إياها قائلة: أواه يا حبيبي! أواه يا منتهى أملي! أهذا هو نصيبي منك؟ أين أنت الآن؟ ألعلك لا تزال في قيد الحياة؟ آه أواه من نائبات الزمان! أما كان الأجدر بي أن أموت فداء عنك؟ أأنت حي بعد؟ ثم سكتت صامتة تتأمل في تلك الصورة، وبما في وجه شفيق من الجمال وتبكي حتى بللت ثيابها وخارت قواها، فألقت بنفسها على السرير والصورة في يدها وهي لا تعلم، فاستغرقت في سنة النوم، وفيما هي راقدة دخل والدها، فرآها على تلك الحال، فعلم أنها نامت باكية، فثارت فيه ثائرة الغيظ؛ إذ لم ير فائدة من ذلك، ثم لاحت منه التفاتة فإذا صورة شفيق في يدها، فلاح له أن بقاء تلك الصورة معها مما يجدد أحزانها، فاستخرجها من يدها وهي لا تدري، وأخفاها في مكان وغادر الغرفة وعاد إلى القاعة.
فلما استيقظت افتقدت الرسم فلم تجده، فأخذت تفتش عنه، فلم تقف له على أثر، فجعلت تلطم وجهها، وتنوح وتبكي، فإذا بأبيها داخل، فسألها عن سبب بلبالها، فقالت له: إنها فقدت رسم شفيق، فتظاهر بمشاركتها في التفتيش عنه، فقال لها: وأين كان موضوعا؟ قالت: كان في يدي الآن، قال: لعلك خرجت به إلى مكان ونسيته خارجا، قالت: لم أخرج إلى مكان قط، قال: لعلك وقفت على هذه النافذة فسقط منك في البحر، قالت: لم أقف هناك. فأخذ يحاول إقناعها أنه سقط في البحر إلى أن قال: وقد يمكن أنك نهضت من السرير وأنت غائبة عن الصواب فلم تعلمي أنك وقفت عند النافذة، ومع ذلك فسأبحث عنه وأخبرك. فسكتت، ولكن لم يعد يهدأ لها بال، وفهمت من كلام والدها أنه يود ضياع ذلك الرسم، فصبرت حتى خرج وبعثت إلى بخيت وأطلعته على الأمر، فوعدها أن يفتش عنه ويأتي به ولو كان في لج البحار.
Halaman tidak diketahui