فقال امرؤ القيس لا والله لا أستوخمه ولكن أستعذبه فرويدًا ينكشف لك دجاها عن فرسان كندة وكتائب حمير. ولقد كان ذكر غير هذا أولى بي، إذ كنت نازلًا بربعي، ومتحرمًا بذمامي، ولكنك قلت فأجبت.
قال قبيصة: إن ما نتوقع فوق قدر المعاتبة والإعتاب. قال امرؤ القيس: هو ذاك!.
ثم شرب امرؤ القيس سبعا، فلما صحا آلى ألا يأكل لحما، ولا يشرب خمرا، ولا يدهن بدهن، ولا يصب امرأة حتى يدرك بثأره، فلما جنه الليل رأى برقًا فقال:
أرقت لبرق بليل أهل ... يضيء سناه بأعلى الجبل
أتاني حديث فكذبته ... بأمر تزعزع منه القلل
بقتل بني أسد ربهم ... ألا كل شيء سواه جلل
فأين ربيعة عن ربها ... وأين تميم وأين الخول
ألا يحضرون لدى بابه ... كما يحضرون إذا ما أكل
وارتحل امرؤ القيس حتى نزل بكرًا وتغلب، فسألهم النصر، وبعث العيون على بني أسد، فلما كان الليل قال لهم علباء: يا معشر بني أسد، تعلمون والله أن عيون امرئ القيس قد أتتكم، ورجعت إليه بخبركم، فارحلوا بليل، ولا تعلموا بني كنانة، ففعلوا.
وأقبل امرؤ القيس بمن معه من بكر وتغلب، حتى انتهى إلى بني كنانة، وهو يحسبهم بني أسد، فوضع السلاح فيهم، وقال: يا لثارات الملك! يا لثارات الهمام. فخرجت إليه عجوز من بني كنانة فقالت: أبيت اللعن! لسنا لك بثأر، ونحن من كنانة فدونك ثأرك فاطلبهم؛ فإن القوم ساروا بالأمس.
فتبع بني أسد ففاتوه ليلتهم تلك؛ فقال:
ألا يا لهف هند إثر قوم ... هم كانوا الشفاء فلم يصابوا
وقاهم جدهم ببني أبيهم ... وبالأشقين ما كان العقاب
وأفلتهن علباء جريضا ... ولو أدركنه صفر الوطاب
وأدركهم ظهرًا، وقد تقطعت خيله، وقطع أعناقهم العطش، وبنو أسد جامون على الماء؛ فنهد إليهم فقالتهم حتى كثرت الجرحى والقتلى فيهم وحجز الليل بينهم وهربت بنو أسد.
فلما أصبحت بكر وتغلب أبوا أن يتبعوهم؛ وقالوا له: لقد أصبت ثأرك. قال: والله ما فعلت ولا أصبت من بني كاهل ولا من غيرهم من بني أسد أحدًا. قالوا: بلى، ولكنك رجل مشؤوم، وكرهوا قتالهم، وانصرفوا عنه، فمضى هاربًا لوجهه حتى لحق بحمير.
فاستأجر من قبائل العرب رجالًا، فسار بهم إلى بني أسد، ومر بتبالة وبها صنم للعرب تعظمه، فاستقسم عنده بقداحة، وهي ثلاثة: الآمر، والناهي، والمتربص. فأجالها فخرج الناهي، ثم أجالها فخرج الناهي، فجمعها فكسرها وضرب بها وجه الصنم وقال: لو أبوك قتل ما عقني، ثم خرج فظفر ببني أسد.
وألح المنذر في طلب امرئ القيس، ووجه الجيوش في طلبه من إياد وبهراء وتنوخ، وأمده أنو شروان بجيش من الأساورة فسرحهم في طلبه، فلم يكن لامرئ القيس بهم طاقة؛ وتفرقت حمير ومن كان معه عنه، فنجا في عصبه من بني آكل المرار؛ ونزل ببعض رؤساء القبائل يستجير بهم وصار يتحول عنهم إلى غيرهم؛ حتى نزل برجل من بني فزارة يقال له عمرو بن جابر بن مازن، فطلب منه الجوار، حتى يرى ذات عيبه.
فقال له الفزاري: يابن حجر؛ إني أراك في خلل من قومك؛ وأنا أنفس بمثلك من أجل الشرف؛ وقد كدت بالأمس تؤكل في دار طيئ؛ وأهل البادية أهل وبر؛ لا أهل حصون تمنعهم، وبينك وبين أهل اليمن ذؤبان من قيس، أفلا أدلك على بلد! فقد جئت قيصر، وجئت النعمان، فلم أر لضيف نازل ولا لمجتد مثله ولا مثل صاحبه.
قال: من هو؟ وأين منزله؟ قال: السموءل بتيماء، هو يمنع ضعفك حتى ترى عيبك، وهو في حصن حصين وحسب كبير.
فقال له امرؤ القيس: وكيف لي به؟ قال أو صلك إلى من يوصلك إليه.
فصحبه إلى رجل من بني فزارة يقال له الربيع بن ضبع الفزاري ممن يأتي السموءل فيحمله ويعطيه.
فلما صار إليه قال له الفزاري: إن السموءل يعجبه الشعر؛ فتعال نتناشد له أشعارًا؛ فقال امرؤ القيس: قل حتى أقول. فقال الربيع:
قل للمنية أي حين نلتقي ... بفناء بيتك في الحضيض المزلق
ولقد أتيت بني المصاص مفاخرًا ... وإلى السموءل زرته بالأبلق
فأتيت أفضل من تحمل حاجة ... إن جئته في غارم أو مرهق
عرفت له الأقوام كل فضيلة ... وحوى المكارم سابقًا لم يسبق
فقال امرؤ القيس:
طرقتك هند بعد طول تجنب ... وهنا ولم تك قبل ذلك تطرق
1 / 4