أي ما تركوا كلامًا لمتكلّم. فإذا كان عنترة - وهو في الجاهلية الجهلاء، وإمام الفصاحة الفصحاء - يقول مثل هذا القول فما ظنك بهذا العصر وقبله بمائتي سنة؟ فلسنا بقولنا هذا، أيدك الله، نطعن على المحدثين ولا نبخسهم تجويدهم ولطف تدقيقهم وطريف معانيهم وإصابة تشبيههم وصحة استعاراتهم. إلاَّ أنَّا نعلم أن الأوائل من الشعراء رسموا رسومًا تبعها من بعدهم، وعوَّل عليها مَن قفا أثرهم، وقلَّ شعرٌ من أشعارهم يخلو من معانٍ صحيحة، وألفاظ فصيحة، وتشبيهات مصيبة، واستعارات عجيبة، ونحن - أطالَ اللهُ في العزّ بقاءك، وكبت بالذل أعداءك - نضمّن رسالتنا هذه مختار ما وقع إلينا من أشعار الجاهلية ومَن تبعهم من المخضرمين، ونجتنب أشعار المشاهير لكثرتها في أيدي النَّاس فلا نذكر منها إلاَّ الشيء اليسير ولا نُخليها من غرر ما رويناه للمحدثين، ونذكر أشياء من النظائر إذا وردت، والإجازات إذا عنّت، ونتكلم عن المعاني المخترعة والمتبعة ولا نجمع نظائر البيت في مكان واحد ولا المعنى المسروق في موضع، بل نجعل ذلك في موضع ذكره، وإن كنا نعلم أنك - أدام الله تأييدك - أعلمُ بما نحمله إليك، ونعرضه عليك، منّا. ومن أين لنا قرائح تنتج ما لا تزال تُريناه، وتسألنا عنه، من دقيق المعاني وطرائف السرقات. ولقد تأتَّى لك - أيدك الله - في بيتَي أبي تمام والبحتري على غموض المعنى وبُعده في النوعين من دقة النظر ولطيف الفكر ما لا يتوهم أنَّه يطَّرِد لسواك ولا يعنُّ لغيرك، وهو أنك - أيد الله عزّك - قلت لنا: من أين أخذ البحتري قوله:
رَكِبا القَنا من بعد ما حملا القنا ... في عسكر متحامل في عسكرِ
فلم يكن عندنا فيه شيء غير الاستحسان والتقريظ، فعرّفتنا - أيدك الله - أنَّه مأخوذ من قول أبي تمام:
رعَته الفيافي بعد ما كانَ حِقبة ... رَعَاها وماءُ الرَّوض ينهلُّ ساكِبُهْ
ولا نعرف في النظر أدقّ من هذا ولا ألطف إلاَّ أنَّا نوفّي الخدمة حقَّها بما نتكلّفه من الاختيار والكلام على ما ذكرناه، وبالله التوفيق.
1 / 16