وبلقيس وقومها مجوس يعبدون الشمس، وقد بلغ من عزتها أن جعلت لنفسها عرشا عظيما فخما ثمانين ذراعا في ثمانين طولا وعرضا، كله من ذهب وفضة مرصع بأنواع الجواهر والدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، وقوائمه من ياقوت أحمر وأخضر ودر وزمرد، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق.
ولما فرغ الهدهد من كلامه قال سليمان: سننظر أصدقت فيما أخبرت أم كنت من الكاذبين. ثم كتب كتابا صورته: من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ. بسم الله الرحمن الرحيم، والسلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فلا تعلوا علي وأتوني مسلمين. وطبعه بالمسك وختمه بخاتمه وقال للهدهد: اذهب بكتابي هذا فألقه إلى بلقيس وقومها، ثم تول وتنح عنهم إلى مكان قريب بحيث تراهم ولا يرونك، ليكون ما يقولون بمسمع منك ومرأى. فأخذ الهدهد الكتاب بمنقاره وطار به .
وكانت بلقيس في عاصمتها مأرب، وهي من صنعاء على ثلاثة أيام، فوافاها الهدهد في قصرها وقد أغلقت الأبواب، وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب وأخذت المفاتيح فوضعتها تحت رأسها، فأتاها الهدهد وهي مستلقية على قفاها راقدة، فدخل عليها من كوة، وألقى الكتاب على نحرها بحيث لم تشعر به وتوارى في الكوة، فانتبهت بلقيس فزعة ورأت الكتاب وكانت قارئة، فلما رأت الختم ارتعدت؛ لأن ملك سليمان كان في خاتمه، وعرفت أن الذي أرسل الكتاب أعظم ملكا منها، فجمعت الملأ من قومها فجاءوا فأخذوا مجالسهم، وقالت لهم خاضعة خائفة: أيها الملأ، إني ألقي إلي كتاب كريم حسن مضمونه وما فيه. يا أيها الملأ أفتوني وأشيروا علي. قالوا: نحن أولو قوة وأولو بأس شديد، والأمر إليك، فانظري ماذا تأمرين. قالت: إني مرسلة إليه بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون بقبولها أو ردها. فإن كان ملكا قبلها وانصرف عنا، وإن كان نبيا ردها ولم يرض منا إلا أن نتبعه على دينه. فبعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري وزيهن وحليهن، وخمسمائة جارية عليهن زي الغلمان. أرسلتهم على خيول مسومة سروجها من الذهب، وجعلت في سواعدهم أساور من ذهب، وفي أعناقهم أطواقا من ذهب، وفي آذانهم أقراطا وشنوفا مرصعات بأنواع الجواهر. وأرسلت ألف لبنة؛ خمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة من فضة، وتاجا مكللا بالدر والياقوت، وبعثت بالمسك والعنبر والعود، وبحقة فيها درة ثمينة عذراء غير مثقوبة، وجزعة مثقوبة معوجة الثقب، يحملها رسل من قومها أصحاب رأي وعقل أمرت عليهم رجلا من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو. وكتبت كتابا فيه نسخة الهدايا، وقالت فيه: إن كنت نبيا فميز بين الوصفاء والوصائف، وأخبر بما في الحقة قبل أن تفتحها، واثقب الدرة ثقبا مستويا، واسلك في الخرزة خيطا من غير علاج إنس ولا جان. وأمرت الغلمان وقالت: إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام تأنيث وتخنيث يشبه كلام النساء. وأمرت الجواري أن يكلمنه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال، ثم قالت للمنذر: إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك فلا يهولنك منظره، وإن رأيته بشاشا لطيفا فهو نبي.
وكان الهدهد يسمع ما دار من الحديث، ولما وعاه كله انطلق مسرعا ليخبر سليمان، فسبقه جبريل وأخبر سليمان بالحال، فأمر سليمان الجن فضربوا لبنات الذهب والفضة وفرشوها في ميدان بين يديه طوله تسعة فراسخ، وجعلوا حول الميدان حائطا شرفه من الذهب والفضة، وأمر الشياطين فأتوا بأحسن الدواب في البر والبحر، فربطوها عن يمين الميدان وعن يساره على لبنات الذهب والفضة، وألقوا علوفتها فيها، وأمر بأولاد الجن فأتوا خلقا كثيرا، وأقاموا عن اليمين وعن اليسار. ثم قعد سليمان في مجلسه على سريره ووضع له أربعة آلاف كرسي عن يمينه ومثلها عن يساره، واصطفت الشياطين صفوفا فراسخ، والوحوش والسباع والطير صفوفا فراسخ، فلما دنا الرسل ووصلوا إلى معسكره والميدان، ورأوا عظمة شأنه وملكه والدواب التي لم تر عيونهم مثلها تروث على لبن الذهب والفضة، تقاصرت إليهم أنفسهم، وكان سليمان لما أمر بفرش الميدان بلبنات الذهب والفضة، أمرهم أن يتركوا على طريق الرسل موضعا على قدر اللبنات التي معهم، فلما رأت الرسل موضع اللبنات خاليا وكل الأرض مفروشة خافوا أن يتهموا، فطرحوا كل ما كان معهم في ذلك المكان، ولما نظروا إلى الشياطين رأوا منظرا عجبا ففزعوا، فقال لهم الشياطين: جوزوا فلا بأس عليكم. وكانوا يمرون على كردوس من الجن وكردوس من الإنس وآخر من الطير وغيرها من السباع والوحوش حتى وصلوا بين يدي سليمان، فنظر إليهم نظرا حسنا بوجه طلق، ثم قال لهم: ما وراءكم؟ فأخبره المنذر رئيس القوم وأعطاه كتاب الملكة، فنظر فيه وقال: أين الحقة؟ فأتي بها فحركها، فجاء جبريل، لا يراه أحد، فهمس في أذنه وأخبره بما فيها، فقال سليمان: إن فيها لدرة ثمينة غير مثقوبة وجزعة مثقوبة معوجة الثقب. فقال الرسول: صدقت، فاثقب الدرة وأدخل الخيط في الخرزة. فقال سليمان: من لي بثقبها؟ وسأل الإنس والجن فلم يكن عندهم علم ذلك، ثم سأل الشياطين فقالوا: أرسل إلى الأرضة. فجاءت الأرضة فأخذت شعرة في فيها، ودخلت في الدرة ثم خرجت من الجانب الآخر. فقال لها سليمان: ما حاجتك؟ فقالت: تصير رزقي في الشجر. قال: لك ذلك. ثم قال: من لهذه الخرزة يسلكها في الخيط؟ فقالت دودة بيضاء: أنا لها. فأخذت الدودة البيضاء الخيط بفيها، ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر. فقال لها سليمان: ما حاجتك؟ قالت: تجعل رزقي في الفواكه. قال: لك ذلك. ثم دعا بالماء وعرضه على الغلمان والجواري ليغسلوا أيديهم. فكانت الجارية تأخذ الماء في يدها وتجعله في الأخرى، ثم تضرب به وجهها، والغلام كما يأخذ الماء يضرب به وجهه، فميز بذلك سليمان بين الوصفاء والوصائف، ثم رد الهدية وقال للمنذر: ارجع إليهم، فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولا طاقة، ولنخرجنهم من سبأ أذلة بذهاب عزهم وهم صاغرون أسرى مهانون.
قالت التوابع: ولما رجع الرسل إلى بلقيس بالهدايا التي ردها سليمان وقصوا عليها القصة، قالت: هو نبي، وما لنا به طاقة. وبعثت إلى سليمان إني قادمة إليك بملوك قومي؛ لأنظر ما الذي تدعو إليه. ثم جعلت عرشها في آخر سبعة أبيات بعضها في بعض، في آخر قصر من سبعة قصور لها، وأغلقت دونه الأبواب، ووكلت به حرسا يحفظونه، وشخصت إلى سليمان بجيشها اللهام حتى وصلت على مسيرة فرسخ منه، فخرج سليمان ذات يوم على سرير ملكه، فرأى رهجا قريبا منهم، فقال: ما هذا؟ قالوا: بلقيس نزلت منا بهذا المكان.
وكان الجن قد علموا أن بلقيس آتية سليمان، وأنه ربما تزوجها فتفشي له أخبار الجن؛ لأنها جنية تربت عندهم، وخافوا أن يولد له منها ولد فتجتمع له فطنة الإنس والجن، فيخرجوا من ملك سليمان إلى ملك أشد منه لا ينفك عن تسخيرهم من بعد أبيه، فعزموا على أن يحولوا بين بلقيس وسليمان، فجاءوا سليمان وأساءوا القول فيها أمامه وقبحوها له، وقالوا: إن في عقلها شيئا وهي شعراء الساقين ورجلها كحافر الحمار. فأراد سليمان أن يختبر عقلها، كما فعلت هي بالوصفاء والوصائف، وأن يتعرف ساقيها ورجلها، ويريها بعض العجائب الدالة على عظيم قدرته وصدقه في دعوى النبوة، فأقبل على جنده فقال: يا أيها الملأ، أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين؟ فقال صخر الجني، وكان بمنزلة جبل يضع قدمه عند منتهى طرفه: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مجلسك للحكومة - وكان سليمان يجلس إلى نصف النهار - وإني على حمله لقوي أمين لا أختزل منه شيئا ولا أبدل به آخر. قال سليمان: أريد أسرع من هذا. فتقدم آصف بن برخيا وزيره على الجن، فقال له سليمان: ائتني بعرشها. فقال برخيا: آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك، مد عينيك حتى ينتهي طرفك ثم أعده. فمد سليمان عينيه نحو اليمين ثم ردهما فإذا عرش بلقيس بين يديه، ذاك أن آصف بن برخيا كان مؤمنا، فدعا الله فبعث الله الملائكة فحملوا السرير من تحت الأرض يخدون بطنها خدا حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان.
ولما رأى سليمان العرش بين يديه قال: نكروه لها، غيروا هيئته وشكله واجعلوا مقدمه مؤخره وأعلاه أسفله، وضعوا الجوهر الأخضر مكان الأحمر والجوهر الأحمر مكان الأخضر ننظر هل تهتدي إلى معرفة عرشها وقد خلفته في مأرب وراءها مغلقة عليه الأبواب موكلة به الحراس؟ أو تهتدي إلى الجواب الصواب إذا سئلت عنه أو لا، ثم أمر فبنوا له صرحا صحنه من زجاج أبيض مملس تحته زجاج أخضر عليه تماثيل حيتان البحر وأسماكه وضفادعه، حتى أن كل من نظر إليه ظنه لجة، ونصب سريره في صدره.
وجاءت بلقيس فترجلت، ومشت إلى الصرح فقادها آصف ابن برخيا إلى حيث وضع عرشها وسألها: أهذا عرشك؟ فنظرت إليه فعلمت أنه عرشها ولكنها أرادت أن تشبه عليهم كما شبهوا عليها، فقالت: كأنه هو. وقد أجابت أحسن جواب، ولم تقل: هو. لاحتمال أن يكون مثله، وذلك لاكتمال عقلها. قال آصف: فادخلي الصرح. فلما دخلته رأت صحنه فحسبته لجة فكشفت عن ساقيها لتخوضها، وقالت في نفسها: إن سليمان يريد أن يغرقني وكان القتل علي أهون. فلما رآها سليمان رأى أحسن الناس ساقا وقدما إلا أنها شعراء الساقين، فصرف بصره عنها ثم قال لها: إن ما تظنين ماء صرح ممرد مستو من قوارير. وأراد سليمان أن يتزوجها، فكره شعر ساقيها، فعملت له الشياطين النورة والحمام، فكانت النورة والحمام منذ ذلك اليوم. فطلت بلقيس ساقيها فسقط شعرهما، ثم تزوجها سليمان وأقرها على ملكها وأمر الجن فابتنوا لها في أرض اليمن ثلاثة حصون لم ير مثلها ارتفاعا وهي: بينون وسلحين وغمدان. وولدت بلقيس لسليمان غلاما سماه داود مات في حياة أبيه، ثم ماتت بلقيس قبل سليمان، في الشام، فدفنها في تدمر وأخفى قبرها عن الناس. ولما قضى الله على سليمان الموت مات وهو قائم على عصاه، ومكث حولا ميتا والجن يعملون تلك الأعمال الشاقة التي كلفهم إياها، يعملونها على عادتهم لا يشعرون بموته حتى أكلت الأرضة عصاه فخر على الأرض، فتبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.
ولما كشف الجن موته، بعد أن دلتهم عليه دابة الأرض، أقبل رجل منهم فسلك تهامة حتى إذا كان في جوف اليمن صرخ بأعلى صوته: يا معشر الجن، إن سليمان قد مات فارفعوا أيديكم. فرفعوا أيديهم وتفرقوا.
القسم الثاني
Halaman tidak diketahui