إن التفكير العلمي مطلبه عسير على غير من دربوا عليه، فعامة الناس يأخذها الضيق إذا طالبت أفرادها بدقة العبارة على النحو الذي يخلصها من الزوائد الوجدانية، فلا يبقى منها إلا تقرير الحقيقة العلمية وحدها، عامة الناس يأخذها الضيق؛ لأن كثرة الناس قد ألفوا خصائص في التعبير بلغتهم، وهي خصائص لا تكاد تفرق بين لفظة مطلوبة وأخرى زائدة، هب قائلا قال هذه العبارة: «إنه لمما يؤسف له أن تكون الأمية فاشية في الوطن العربي بهذه النسبة العالية.» إنها عبارة ظاهرها تقرير عقلي علمي، وحقيقتها تعبير مشحون بالوجدان مما يخرج عن نطاق العقل ونطاق العلم معا؛ فقوله «إنه لمما يؤسف له.» إنما يشير به إلى حالته الشعورية لا إلى جانب من جوانب الواقع الخارجي الذي يتحدث عنه، وسواء ذكر في جملته هذا الجزء أو لم يذكره، لا يتغير من الواقع الموصوف شيء؛ وقوله «فاشية» إنما يعبر عن انطباع عام يخلو من أي تحديد؛ ومن ثم فليس فيه الموضوعية التي يمكن غيره أن يشاركه في تقرير الواقعة، وهكذا ترى أن خيوطا ذاتية كثيرة قد تسللت في العبارة فأفقدتها علميتها.
حدث لي ذات يوم أن كنت أحاضر في هذا المعنى، فأثرت دهشة الطلاب حين أردت أن أزيد الأمر وضوحا، فقلت إنه إذا قال القائل: «قد أشرقت الشمس اليوم في الساعة الخامسة.» فإن كلمة «قد» في أول عبارته تخرج عن النطاق العلمي؛ لأنها لا تضيف ولا تحذف من جوانب الواقعة التي أدرنا ذكرها، فهي إذا أفادت معنى فإنما تفيد «التوكيد» والتوكيد صفة خاصة باطنية شعورية أراد المتكلم أن يؤثر بها في السامع، لكنها ليست مما يشير إلى شيء في الوجود الخارجي كما وقع.
إن أمثال هذه الكلمات الوجدانية هي التي تكثر في العبارة الأدبية - شعرا كانت أم نثرا فنيا - لأن المقصود هناك هو الجانب الوجداني من الناطق ومن السامع على السواء، أما في العلوم فلا تجدها، وإذا شئت فتصفح كتابا في الرياضة أو في الفيزياء أو في الكيمياء، فلن تقرأ فيها عبارة مثل: «إنه لمما يؤسف له.» أو أية عبارة أخرى مما يفيد الدهشة أو التوكيد أو الرجاء؛ نعم قد نجد أمثال هذه العبارات المشحونة بالوجدان، في الدراسات الإنسانية، كالتاريخ والنقد الأدبي وعلم الاجتماع؛ لكنها بقدر ما شحنت بالطاقة الوجدانية في عبارتها، بقدر ما فقدت من موضوعية الصياغة العلمية؛ ولا عجب أن تكون العلوم المضبوطة المتقدمة ذات جفاف في مصطلحها؛ لأنه إنما تلجأ إلى الرموز الدالة وحدها، دون إضافة يراد بها الإشارة إلى ما يختلج به الفؤاد في جوف الباحث العلمي؛ ومن هنا كانت الكتابة العلمية محايدة، لا يمكن الدارس أن يستشف منها شخصية كاتبها، أما الكتابة الأدبية ففيها من التعبير الوجداني المنحاز ما يكفي القارئ أن يعلم الكثير عن شخصية الكاتب. ومن هنا أيضا كانت الكتب العلمية الصرف أسهل في الترجمة إلى اللغات الأخرى من الكتب الأدبية، إذ المصطلح العلمي إذا وضع مكانه مصطلح يساويه من لغة أخرى، فإنه لا يفقد شيئا ولا كذلك عبارة تحمل ارتعاشة الوجدان.
واللغات تتفاوت في مضمونها الوجداني، أو قل في مضمونها الشعري، بتفاوتها في كثرة الألفاظ التي تشير إلى باطن الإنسان أكثر مما تشير إلى واقع الأشياء الخارجية، وأحسب أن اللغة العربية من أغزر اللغات غوصا في وجدان المتكلم؛ ولذلك رأينا صعوبة في ترجمتها إلى لغات أخرى، بالنسبة إلى ترجمة تلك اللغات الأخرى إلى العربية. إن الغزارة الشعرية في لغة ما، تجعل لجرسها أهمية خاصة، فإذا تذكرنا أن جرس اللفظ لا يدخل في التعبير العلمي الموضوعي الدقيق، علمنا أنه كلما ازداد ارتكازنا على الجرس قل تبعا لذلك المحصول العلمي التقريري الجاف في العبارة المعينة ذات الجرس؛ فالجانب الموضوعي الخالص من الجملة العلمية، لا ينصرف بدلالته إلا إلى جزء من الواقع الفعلي، يمكن أي سامع مختص أن يراجعه ليطمئن إلى صوابه. •••
ومن خاصة الموضوعية التي يتميز بها التفكير العلمي، تتفرع خاصة أخرى بالغة الأهمية في تحديد ما نريد أن نحدده، وتلك هي أن تكون القضية العلمية المطروحة على العلماء، قابلة لأن تحقق بالوسائل التي تبرز خطأها لو كانت قضية خاطئة؛ فنحن إذ قلنا عن التفكير العلمي إنه «موضوعي» فإنما قصدنا إلى القول - تبعا لذلك - بأن القضية العلمية مسألة اجتماعية لا مسألة فردية تخص قائلها وحده؛ أعني أن الباحث العلمي إذا ما أعلن عن فكرة ما وزعم لها أنها نتيجة تأدى إليها من بحثه، لم يكن له مندوحة حينئذ عن أن يقيم أمام الناس (أي العلماء الزملاء في ميدان تخصصه) دليل صدقها، وليس من حقه أن يجعلها أمرا خاصا به، أدركه بوسيلة لا يملكها إلا هو دون سائر الناس؛ فابتداء من اللغة أو الرموز التي يسوق فيها فكرته، يجب أن تكون لغة أو رموزا مما اصطلح عليه علماء المجال الذي يبحث فيه، لكي يكون مراده مفهوما لكل من أراد من هؤلاء العلماء أن يتابعه ويراجعه ويناقشه فيما قدم. وإذن فلا بد لفكرته المقترحة أن تكون مما يمكن التحقق منه بالحواس المشتركة من بصر وسمع وغيرهما، فلا تكون - مثلا - من الخوارق التي يستعصى إدراك سرها على أبصار الناس وأسماعهم.
وهنا تنشأ نقطتان هامتان تستحقان الذكر: أولاهما الألفاظ الدالة على قيم، كالقيم الأخلاقية والقيم الجمالية، هل يجوز إيرادها في عبارة علمية؟ هل يجوز لعالم فيزيائي - مثلا - أن يعلن في الناس أنه ليس من «الخير» للإنسانية أن تفجر الذرة؟ وأعني هل يجوز له أن يعلن ذلك من حيث هو عالم في الفيزياء؟ صحيح أنه - من حيث هو إنسان بين سائر الناس - يتمتع بكل حقوق القول التي يتمتع بها الآخرون، بشرط ألا يزيد على هؤلاء الآخرين في ميزان الآراء، طالما كان الرأي الذي يعرضه ليس من اختصاصه العلمي؛ وواضح أن مسألة «الخير» و«الشر» ليست ضمن مسائل الفيزياء التي يكون له فيها أولوية الرأي على سواه.
لا؛ إن الألفاظ الدالة على قيم، بكل أنواعها، ليست مما يدخل في السياق العلمي؛ إننا كثيرا ما نسمع القائلين يحتجون بأعلام العلماء في تأييد ما يذهبون هم إليه من مذاهب الاعتقادات والقيم، كأن يقال - مثلا - إن «أينشتين» مؤمن بالقيمة العليا للضمير الإنساني، وإن دارون لا يعارض بنظريته البيولوجية وجوب التزام الفضيلة، وهكذا، كأنما «أينشتين» أو «دارون» قد جعلا هذه الأقوال ضمن نظرياتهما العلمية، وكأن أيا منهما إذا ما أخرجناه عن ميدان تخصصه العلمي كان له الرجحان على غيره في سائر الآراء؛ فما نريد توكيده هنا هو أن العلم منوط بمسائله، ورجال العلم يستمع إليهم في ميادينهم العلمية، وأما ما يختص بالقيم الإنسانية فلا هو من مسائل العلم، ولا هو مما يستمع فيه للعلماء إلا من حيث هم ناس كسائر الناس.
والنقطة الأخرى التي نريد إبرازها أيضا، هي أننا إذ قلنا إن من أهم شروط القضية العلمية، أن يكون في مستطاع المتخصصين في مجالها أن يخضعوها للتحقيق بوسائل العلم، وإما قبلوها بعد ذلك وإما رفضوها؛ فقد أردنا كذلك أن نقول إن الإنسان العادي في حياته العادية، إذا أراد أن يتبين في عبارة معينة أمن قبيل الحقائق التي تتسم بالعلمية ولو من بعيد، أم مما لا شأن له بصفة العلمية على الإطلاق، فليسأل نفسه: ماذا يتغير في دنيا الأشياء بين حالتي الصواب والخطأ في هذه العبارة؟ أي إننا إذا فرضنا لتلك الأشياء وضعا خاصا وترتيبا خاصا في حالة كون العبارة المذكورة صحيحة، فكيف إذن بكون وضع الأشياء وترتيبها في حالة كونها خاطئة؟ فإذا لم نجد فرقا في ذلك بين حالتي الصواب والخطأ، عرفنا أن تلك العبارة أبعد ما تكون عن أن تندرج في مجموعة الحقائق العلمية؛ ولنضرب مثلا لذلك فنقول: لقد مر على الناس حين من الدهر في أول التاريخ، ظنوا فيه أن للنبات روحا يرعاه، وكذلك للمطر وللبراكين ولكل ظاهرة من ظواهر الطبيعة من حولهم، حتى لقد كان الناس حينئذ يخشون بطش هاتيك الأرواح الكامنة وراء الظواهر، كل منها يرعى ظاهرته الخاصة به، فكانوا يقدمون لها القرابين استجلابا لرضاها، ونحن الآن نسأل: ماذا تكون طريقة نمو النبات وإثماره في حالة صدق ذلك الاعتقاد، ثم ماذا تكون طريقة النمو والإثمار في حالة بطلانه؟ إننا ما دمنا نستطيع الآن تعليل كل وجه من وجوه النمو والإثمار بعلته، من تربة وشمس وهواء وغير ذلك مما يعرفه علماء النبات، فلا يبقى للروح القيم على النبات وظيفة يؤديها، ومن ثم لم يعد ثمة فرق في وضع الأشياء وترتيبها بين أن يكون الاعتقاد سليما أو فاسدا. (5) وماذا عن العلوم الإنسانية؟
كنت خلال العام الجامعي 1953-1954م أستاذا زائرا في إحدى جامعات الولايات المتحدة الأمريكية، وكان التقليد الجاري في تلك الجامعة أن تستضيف رجالا من القمم العلمية في أمريكا ذاتها، ليقضي الزائر منهم أسبوعا أو نحو ذلك، يحاضر طلاب الجامعة مجتمعين، ثم يعقد الندوات العلمية مع أعضاء هيئة التدريس؛ فكان من بين هؤلاء الزائرين الأفذاذ، في أثناء وجودي هناك «هنري مارجينو» الذي كان قبل ذلك أستاذا للفيزياء في جامعة بيل، ثم انصرف باهتمامه إلى فلسفة العلوم؛ ومن ثم فقد كانت ندواته مع هيئة التدريس في زيارته تلك تدور حول هذا الموضوع، وخصوصا فيما يختص بالعلوم الطبيعية، وبصفة أخص بعلم الفيزياء، وأراد أن يختم ندواته بندوة عن فلسفة العلوم الإنسانية: ماذا تكون القواعد الأساس في مناهجها؟
وبدأ حديثه يؤمئذ بسؤال ألقاه علينا نحن مجموعة الأساتذة الحاضرين، قائلا لقد حدثتكم فيما قبل عن فلسفة المنهج في ميادين العلم الطبيعي، وأريد الآن أن أستمع إليكم فيما ترونه عن هذا الموضوع في ميدان العلوم الإنسانية، وهنا حدثت لحظة صمت قصيرة، ثم بدأت أنا الحديث بعدها، فقد كنت بينهم زائرا جاء إليهم من بلد بعيد يختلف بثقافته وثقافتهم فيما تصوروا، وكأنما أحسست بالأنظار تتجه نحوي لأبدأ الحديث، فبدأت بسؤال وجهته إلى «هنري مارجينو»: أليس في بحثنا مقدما عن خصائص معينة لمنهج السير في العلوم الإنسانية، ما يتضمن أننا قد افترضنا اختلافا بينها وبين العلوم الطبيعية في طريقة التناول؟ إن الرأي عندي هو أن نبدأ بافتراض آخر، وهو أن كل ظاهرة تقع تحت المشاهدة، يمكن تناولها بطريقة العلوم الطبيعية، لا فرق في ذلك بين ظاهرة إنسانية أو ظاهرة مناخية أو ظاهرة في معادن الأرض أو غيرها، إلى أن نستنفد إمكانات المنهج العلمي بهذا المعنى، فإذا بقيت من الظاهرة الإنسانية بقية يتعذر إخضاعها للمنهج الطبيعي، فإما أوجدنا لها منهجا خاصا بها، وإما حولناها إلى مجال آخر غير مجال العلوم.
Halaman tidak diketahui