الفن ومذاهبه في النثر العربي
الفن ومذاهبه في النثر العربي
Penerbit
دار المعارف
Nombor Edisi
الثالثة عشرة
Genre-genre
المقدمات
مقدمة الطبعة الثالثة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثالثة:
رجعت في هذه الطبعة أنظر في فصول هذا البحث أصلح فيها، وأنقح ما يحتاج إلى إصلاح وتنقيح، ورأيت أن أعيد كتابة الفصل الثاني من الكتاب الأول الخاص بالصنعة في النثر الإسلامي، حتى أضيف إليه زيادات عن الإسلام ومعانيه الروحية، والقرآن الكريم وهديه، وما كان له من آثار بعيدة في اللغة العربية، والحديث النبوي وتدوينه وروعة تعبيره. ومضيت أفصل القول في الخطابة بفروعها الثلاثة من سياسة، وحفلية، ودينية، ولاحظت أنه أتيح للخطابة الأخيرة خطباء مفوهون، نوعوا معانيها تنويعا واسعا، وعنوا بأساليبها عناية بعيدة، وقد هدتهم فطنهم إلى نمط جديد من الصيغ الصوتية، هو نمط الإزدواج، وما يطوى فيه من ترادف موسيقي، ودار هذا النمط على ألسنتهم، ولم يلبث الكتاب -وعلى رأسهم سالم، وعبد الحميد الكاتب- أن حاكوهم في هذا النمط الرائع.
ورأيت أن أبسط الكلام في الفصل التالي الخاص بالصنعة في النثر العباسي. حتى أوضح كيف تطور المترجمون والمتكلمون -وخاصة المعتزلة- بهذا النثر، فإذا أسلوب مولد جديد ينشأ فيه، وهو أسلوب مبسط وسط بين لغة البدو الجافية، ولغة العامة المبتذلة، وفي الوقت نفسه يحتفظ بالجزالة والرصانة والرونق، مع مرونته وطواعيته لأداء معان، ومدلولات لم يكن للعربية بها عهد.
وقد نهض بهذا الأسلوب نخبة من المترجمين في مقدمتهم ابن المقفع الذي طارت شهرته في أوائل العصر العباسي، لما أظهر من مهارة في صب خير ما كانت تحمله لغته الفارسية من ثقافات مختلفة في قوالب عربية أصيلة، لا يشوبها
1 / 5
أي ضرب من ضروب الرطانة الأعجمية، فالعربية -عنده- تحتفظ بمشخصاتها وأصولها، وأوضاعها في النحو والصرف، والاشتقاق والتركيب، بينما تتمثل معاني الثقافات الأجنبية تمثلا دقيقا في ألفاظ مألوفة بينة واضحة، مع حرصه على الدقة والإيجاز، ومع بعده عن التوعر والتعقيد، ومع النسج المحكم الدقيق.
ووطد المتكلمون دعائم هذا الأسلوب العباسي المولد الجديد، بما ملكوا من أزمة العربية، وكنوز الفلسفة والثقافات الأجنبية، وقد أثاروا مباحث كثيرة في علم الكلام، وفي الطبيعة والأخلاق، ولم يكونوا يصنفون فحسب، بل كانوا أيضا يناظرون، ويجادلون الدهرية والزنادقة، والملحدين بهذا الأسلوب الجديد الذي يموج بالألفاظ الجزلة المونقة، والمعاني الغزيرة المرتبة في مقدمات منطقية دقيقة، ومقاييس عقلية سديدة. وكانوا يفحصون مواد تعبيرهم ويمنحنونها ويختبرونها، حتى يضعوا دقائق معانيهم في الألفاظ الطلية التي توائمها، ودفعهم ذلك إلى أن يسجلوا ملاحظات مختلفة، فهم على صحة مخارج الحروف وجمال الألفاظ، ووضوح المعاني ومواطن الإيجاز والإطناب، ومحاسن التعبير، وحاولوا الوقوف على ماسبقهم إليه اليونان، وغير اليونان من آراء وملاحظات في هذه الجوانب، وبذلك كانوا المؤسسين لأصول البلاغة العربية، وقد انتهى عندهم الأسلوب العباسي المولد إلى كل ما كان ينتظره من روعة، وجمال في اللفظ والمعنى.
وكل ما زدته في هذه الطبعة أو صححته، أو نقحته إنما دفعني إليه تحري الدقة، ومن رأيي دائما أن يعيد المؤلف النظر في مؤلفاته حين يعدها للطبع من جديد. وبذلك تنمو الدراسة الأدبية، ويستوفي الدارس حقوقها بقدر ما يستطيع، فتكثر الفائدة منها ويزداد النفع. والله أسأل أن يلهمني السداد في القول، والإخلاص في الفكر والعمل، وهو حسبي ونعم الوكيل.
القاهرة في ١٥ من يناير سنة ١٩٦٠م.
شوقي ضيف.
1 / 6
مقدمة الطبعة الأولى:
اتخذت في هذا الكتاب السيرة التي اتخذتها في كتاب "الفن ومذاهبه في الشعر العربي"، فقد درست هناك الشعر في عصوره المختلفة دراسة أتاحت لي أن أضع للفن فيه -أو بعبارة أخرى لصناعته- ثلاثة مذاهب، وهي: الصنعة والتصنيع والتصنع، ومذهب الصنعة هو المذهب الذي نجده في أقدم نماذج الشعر العربي، إذا كان أصحابه يخضعون لطائفة من الرسوم، والتقاليد في صنعه، وهي تقاليد ورسوم تجعل الإنسان يشعر بأن أدبنا العربي منذ أقدم العصور أدب تقليدي، إذ تتضح فيه عناصر التقليد اتضاحا تاما، غير أن هذه العناصر لا تطغى على عناصر التحول والتطور فيه، ومن أجل ذلك كنا لا نمضي في درس الشعر العربي بعد خروجه من البادية إلى المدن المتحضرة، حتى نرى مذهبًا جديدًا يخرج في صناعته، هو مذهب التصنع الذي كان يقوم على طرائف الزخرف المختلفة من بديع وغير بديع، ونتغلغل في العصر العباسي، فإذا الحضارة العربية تتعقد تعقدا شديدا، وهو تعقد لم يلبث بأن انتقل إلى الصناعة والفن في الشعر، فأهل لخروج مذهب جديد هو مذهب التصنع الذي كان يقوم على تصعيب طرق الأداء، وقد جمد الفن في الشعر العربي عند هذه المذاهب الثلاثة، ولم يتجاوزها إلى مذهب جديد.
وهذه المذاهب التي فسرت بها الفن في الشعر العربي، ومراحله المتتابعة هي نفسها التي فسرت -على ضوئها- الفن في النثر العربي ومراحله بالمتعاقبة، فقد بدأت صناعة النثر في العصر الجاهلي بصورة فنية لا تأنق فيها، ولا تعقيد تبعا لحياة العرب البسيطة التي لم تكن تعتمد على تصعيب في الأداء، ولا على تنميق. وفزعت في وصف صورة النثر حينئذ إلى نصوص الشعر الجاهلي؛ لأنها أكثر صحة مما يضاف إلى هذا العصر من خطابة، وسجع كهان، ووجدت
1 / 7
في هذه النصوص ما يصور تصويرا تاما طبيعة النثر الجاهلي، وما كان يوفر له أصحابه من تحبير وتجويد.
ويدور الزمن دورة، وإذا الإسلام يفتح صفحة مشرقة في تاريخ العرب، فقد أخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن دائرة الشعوب القبلية إلى دوائر الأمم المتحضرة. وقد رأيت النثر يستمر في أثناء العصر الإسلامي في الصورة التي رسمها العصر الجاهلي من حيث نسجه وصوغه، وإن اختلفت موضوعاته، وتشعبت معانيه، فقد اتسعت الخطابة اتساعا شديدا، وأخذ يظهر بجانبها نوع جديد من النثر، لم يكن للعرب عهد به، وهو الكتابة الفنية، أو ما يسميه بعض الباحثين باسم النثر الفني. واستوعبت -في دقة- نشأة هذا النوع، وأثبت أنه لم ينشأ بفضل العناصر التي تحدرت من أصول أجنبية، وإنما نشأ بفضل العرب أنفسهم، وفي ظل نظمهم السياسية الجديدة. وليس معنى ذلك أني أنكرت تأثير العناصر الأجنبية في هذا النوع، بل لقد أخذت تشارك فيه مع مرور الزمن، ولكنها مشاركة اتصلت بنموه وتطوره لا بوجوده ونشأته. وما زال هذا النوع يتطور في العصر الإسلامي حتى وصل إلى عبد الحميد الكاتب، فأعطاه صورته النهائية، وهي صورة اندمجت في صورة المذهب القديم: مذهب الصنعة والصانعين. وقد ذهبت إلى أن عبد الحميد كان يتصل بالثقافة الفارسية مباشرة، أما الثقافة اليونانية فاتصل بها عن طريق أستاذه سالم الذي كان يعرفها معرفة وثيقة.
ويدور الزمن دورة أخرى، فإذا بنا نصل إلى العصر العباسي، ونلتقي بابن المقفع وسهل بن هارون والجاحظ، وأضربهم ممن كانوا يعنون بالكتابات الطويلة، أو بعبارة أخرى بالرسائل والكتب الأدبية، وقد حافظت هذه الجماعة على إطار النثر الذي تسلمته من عبد الحميد الكاتب، فلم تخرج به إلى مذهب جديد، بل عاشت في إطار مذهب الصنعة القديم، على الرغم من البون الشاسع بين ثقافتها، وثقافة أصحاب المذهب في العصور السابقة. وقد أوضحت منزلة ابن المقفع، وما استطاع أن ينهض به من الملاءمة بين العربية، وما نقل إليها
1 / 8
من كنوز الآداب الأجنبية، إذ استطاع أن يحتفظ لها بخصائصها وبأسلوبها الجزل الرصين. أما الجاحظ فعنيت ببيان فنه عناية واسعة، ودرست له "رسالة التربيع والتدوير" دراسة مفصلة، وذهبت في تعليل تكراره المسرف إلى أنه كان يملي كثيرا من كتبه، إذ أملى البيان والتبيين والحيوان والبخلاء، ورسالة التربيع والتدوير نفسها، ومن أجل ذلك اتسمت كتاباته -غالبًا- بمياسم كتب الإملاء والمحاضرة من حيث التكرار والاستطراد، وما يتصل بذلك أحيانا من خلل في البناء.
ولما تركت هذه الجماعة من أصحاب الكتابات الطويلة في العصر العباسي إلى أصحاب الكتابات الرسمية القصيرة، أو بعبارة أخرى أصحاب الدواوين والكتابة الديوانية، وجدت هذه الجماعة الثانية تسعى إلى إحداث مذهب جديد، هو مذهب التصنيع، وهو مذهب كان يعبر تعبيرا دقيقا عن الحضارة العباسية، وما يطوي فيها من تأنق وتنميق. وما زالت مقدمات هذا المذهب تتراءى -من حين إلى حين- في الدواوين العباسية حتى إذا كان مطلع القرن الرابع للهجرة، وجدت السجع يعم في دواوين المقتدر. وما لبث ابن العميد وزير البويهيين أن وصل بهذا السجع إلى ما كان ينتظر له من ترصيع بطرائف البديع المعروفة من جناس وطباق وتصوير. وعللت لاكتمال المذهب عند ابن العميد بأنه كان يتقن فن التصوير، وعلم الحيل "الميكانيكا"، فذهب يحتال في نماذجه حيلا أدته إلى أن يوفر لها كل ما يستطيع من زخارف السجع والبديع. ووقفت بعد ذلك عند أنصار هذا المذهب من مثل الصاحب بن عباد، وأبي إسحاق الصابي والخوارزمي، وبديع الزمان، ولاحظت أن بذورا مكتنة لمذهب ثالث أخذت تظهر عند الأخيرين، وقد بدت في شكل أتم وأوضح عند قابوس بن وشمكير، وما هي إلا أن يدور الزمن دورة، فإذا هذا المذهب تتم له صورته عند أبي العلاء، ونقصد مذهب التصنع الذي كان يقوم على تصعيب رق الأداء، وتعقيدها ضروبا من التعقيد، وإن الإنسان ليشعر كأن التعقيد أصبح غاية في نفسه، ولنفسه! واستطردت من أبي العلاء إلى الحريري في آثاره والحصكفي في نماذجه،
1 / 9
وفسرت ما نهضا به من تعقيد في أدوات فنهما ووسائله.
ويدور الزمن بعد ذلك في العصور الوسطى درة بل ما شاء من دورات، فلا يظهر مذهب جديد في صناعة النثر العربي وصياغته، بل يجمد الأدباء عند صورة المذهب الأخير، يمكثون في إطارها حائرين حتى العصر الحديث. وهذه هي المذاهب، أو المراحل التي مر بها الفن في النثر العربي، فقد بدأ بمرحلة الصنعة، ثم انتقل إلى مرحلة التصنيع، وما لبث أن انتهى إلى مرحلة التصنع، وتحجر في هذه المرحلة، فلم يستطع منها إفلاتا ولا خلاصا. وقد ذهبت أدرس هذا النثر في الأندلس ومصر، فتعقبت في الأقليمين نشأته، وتطوره، ومناهج، وأشهر أساتذته وأعلامه، وانهيت من هذا التعقب إلى أن الأندلس ومصر جميعا لم يستحدثا مذهبا يمكن أن نضمه إلى جملة المذاهب التي ظهرت في المشرق. وإن الباحث ليشعر كأنما كانت أصول المذاهب المشرقية، في صناعة الأدبي العربي: شعره ونثره أثبت وأصلب في تاريخ هذا الأدب من أن يصيبها أي إقليم من الأقاليم العربية بضرب واسع من ضروب التحريف والتغيير، وليس معنى ذلك أن مصر والأندلس لم تعبرا عن شخصيتها أي تعبير في أدبهما، بل لقد عبرتا ولكن في طاقة محدودة، وداخل المذاهب المشرقية الموضوعة. وسقت بعد ذلك خاتمة عرضت فيها بإيجاز لنهضة النثر المصري الحديث.
وهذه الدراسة المتشعبة النثر العربي، وما مر به من أحداث في عصوره، وأقاليمه المختلفة جعلتني أرجع إلى كل ما استطعت من كتب الأدب والتاريخ والجغرافيا عند العرب، وكذلك رجعت إلى طائفة من كتب المستشرقين. وينبغي أن أشير هنا إلى صعوبة هذا البحث، وكثرة ما صادفني فيه من مشاكل، كما ينبغي أن أشير إلى أنه كانت غايتي الأساسية -منذ الخطوات الأولى فيه- أن أضع أمام القارئ الصور الدقيقة للنثر العربي في مختلف أطواره ومراحله، وهي صور حاولت أن أحتفظ لها بخصائصها، فلم أعتمد على حكاية إحساسي، وشعوري إزاء نماذجها؛ وأيضا فإنني لم أعتمد في مسألة على الفروض والأوهام، وإنما.
1 / 10
اعتمدت على النصوص الحسية نفسها، وكل ما أرجوه أن أكون قد عرفت -بعض التعريف- بالنثر العربي في مختلف مناهجه ومذاهبه، وهو تعريف قصدت به في هذا الكتاب- كما قصدت في كتاب "الفن ومذاهبه في الشعر العربي" -أن أحبب قراءة أدبنا إلى شباب العصر الحديث الذين يؤمنون بفكرة المذاهب، والمناهج وتطبيقها في الدراسات المختلفة، والله ولي التوفيق والتيسير.
شوقي ضيف.
القاهرة في ١ من أبريل سنة ١٩٤٦م.
1 / 11
الكتاب الأول: مذهب الصنعة
الفصل الأول: الصنعة في النثر الجاهلي
النثر الجاهلي:
النثر، هو الكلام الذي لم ينظم في أوزان وقواف، وهو على ضربين: أما الضرب الأول فهو االنثر العادي يقال في لغة التخاطب، وليست لهذا الضرب الضرب قيمة أدبية، إلا ما يجرى فيه أحيانا من أمثال وحكم، وأما الضرب الثاني، فهو النثر الذي يرتفع فيه أصحابه إلى لغة فيها فن ومهارة وبلاغة، وهذا الضرب هو الذي يعنى النقاد في اللغات المختلفة ببحثه ودرسه، وبيان ما مر به من أحداث وأطوار، وما يمتاز به في كل طور من صفات وخصائص، وهو يتفرع إلى جدولين كبيرين، هما الخطابة والكتابة الفنية -ويسميها بعض الباحثين باسم النثر الفني- وهي تشمل القصص المكتوب، كما تشمل الرسائل الأدبية المحبرة، وقد تتسع فتشمل الكتابة التاريخية المنمقة.
ومن يرجع إلى العصر الجاهلي، وأخباره يجد هذا الضرب الأخير من النثر يلعب دورا مهما في حياة العرب حينئذ، إذ كان عرب الجاهلية مشغوفين بالتاريخ والقصص عن فرسانهم ووقائعهم وملوكهم، يقطعون بذلك أوقات سمرهم في الليل وحول خيامهم، وقد دارت بينهم أطراف من أخبار الأمم المجاورة لهم ممتزجة بالخرافات والأساطير، ففي السيرة النبوية أن النضر بن الحارث المكي، كان يقص على قريش أحاديث عن أبطال الفرس أمثال رستم وإسفنديار١، وأكثر ما كان يستهويهم من القصص أحاديث قصاصهم عن
_________
١ السيرة النبوية لابن هشام "طبع الحلبي" ١/ ٦٩.
1 / 15
أيامهم وحروبهم في الجاهلية، مما يصوره لنا كتاب شرح النقائض لأبي عبيدة، وكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني، وقد تلاهما اللغويون والأدباء يعنون بتلك الأيام والحروب عناية واسعة١ على نحو ما هو معروف عن ابن عبد ربه في "العقد الفريد" وابن الأثير في الجزء الأول من كتابه "الكامل"، والميداني في الفصل التاسع والعشرين من كتابه "مجمع الأمثال".
وينبغي أن لا نعلق أهمية تاريخية، أو أدبية على هذا القصص، فإن الرواة حرفوا فيه كثيرا قبل أن يأخذ شكله النهائي عند أبي عبيدة، وغيره من مؤلفي العصر العباسي، وتوضح ذلك توضيحا تاما قصة الزباء ملكة تدمر ببادية الشام في القرن الثالث الميلادي، وهي تلك القصة التي رويت في الكتب العربية عن هشام بن محمد الكلبي٢، والتي تزعم أنها بنت عمرو بن الظرب العمليقي، وأن حروبا نشبت بينه وبين جذيمة الأبرش ملك الحيرة، وتنوخ انتهت بقتل عمرو، فاحتالت بنته الزباء على جذيمة، حتى قدم عليها فقتلته، وخلفه ابن أخته عمرو بن عدي، فاحتال بمساعدة أحد أتباعه -ويسمى قصيرًا- حتى انتقم منها في مدينتها التي بنتها على الفرات، بأن حمل إلى حصنها رجالا في جواليق أو صناديق، وفتحت له الحصن، وهي تظنه يحمل بعض عروض التجارة، وخرج الرجال من الجواليق، فقتلوها واستولوا على المدينة. وهي أسطورة لا تتفق في شيء ووثائق التاريخ الروماني الصحيحة عن الزباء، أو كما يسمونها زنبوبيا Zenobia زوج أذينة الذي قتل غدرا، وقد نشرت سلطانها على العراق والشام ومصر وآسيا الصغرى، وصارعت الرومان صراعا عنيفا، حتى تصدى لها "أورليان" وانتصر على جيوشها، وحاصر حاضرتها تدمر، وطال الحصار ويئست من النصر، فحاولت الفرار ولكن جنوده تعقبوها وأسرارها، وأخذها معه أسيرة إلى روما حيث قضيت بقية أيامها٣.
_________
١ انظر الفن الأولى من المقالة الثالثة في الفهرست لابن النديم.
٢ راجع الأغاني ١٦/ ٧٠ وابن الأثير "طبعة ليدن" ١/ ٢٤٧ وابن خلدون طبعة فاس ٢٢/ ٤٥.
٣ انظر تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي "طبع بغداد - ١٩٥٣" ٣/ ٩٩ وما بعدها.
1 / 16
وكأن لا علاقة بين شخصية زنوبيا التاريخية، وشخصية الزباء في القصة العربية، فقد غيرت في القصة جميع المعالم التاريخية، حتى مدينتها تدمر وضع القصاص مكانها مدينتين بنتهما على الفرات، وحتى اسمها وهو "زنوبيا" حرف إلى الزباء، وقد جلبوا جذيمة من الحيرة ليحل محل زوجها أذينه الذي قتل غدرًا.
وإذا كنا لا نستطيع أن نعتمد على هذا القصص في حوادث التاريخ، فأولى لنا أن لا نعتمد عليه في وصف صورة النثر الجاهلي، وبيان خصائصه الفنية؛ لأنه لم يكتب في العصر الجاهلي، ولا في عصر قريب منه، وإنما كتب في العصر العباسي، ومن أجل ذلك كنا لا نستطيع أن نعتد -من الوجهة الأدبية- بما يروى عن هذا العصر من عناصر القصص والتاريخ؛ لأن الرواة حرفوا لفظه، بل لقد حرفوا معناه على نحو ما حرفوا قصة زنوبيا، أو بنت زباي وأخبارها، ولو أن العرب كتبوا تاريخهم، وقصصهم في العصر الجاهلي لاعتددنا بهذا اللون من نثرهم، ولكنهم لم يكتبوا منه شيئا. أما ما يروى عن هشام بن محمد الكلبي من أنه رأى في بيع الحيرة بعض مدونات استخراج منها أخبار العرب١، فإننا لا نستطيع الاعتماد على روايته؛ لأنه متهم في كثير مما يرويه٢، وحتى لو صحت روايته، فأغلب الظن أن ما شاهده من تلك المدونات لم يكن مكتوبا بالعربية، إنما كان مكتوبا بالسريانية التي كانت شائعة في الحيرة قبل الإسلام٣.
والحق أنه لا يوجد تحت أيدينا دليل مادي على أن العرب تركوا في العصر الجاهلي مدونات تاريخينة أو أدبية، وليس معنى ذلك أن الخط العربي لم يكن قد نشأ، فالنقوش المكتشفة حديثا تؤكد أنه تم تكونه في الحجار منذ القرن السادس الميلادي، ومنها انتشر في بعض البيئات الصحراوية، وقد جاء الإسلام
_________
١ انظر الطبري "طبع ليدن": القسم الأول ص٧٧٠.
٢ أغاني "طبع دار الكتب المصرية" ١٠/ ٤٠.
٣ أصل الخط العربي الخليل نامي ص٤.
1 / 17
وفي مكة سبعة عشر كاتبا١، وفي المدينة أحد عشر٢، وكان بين البدو من يعرف الكتابة مثل أكثم بن صيفي٣ حكيم وخطيبها، وكان ابن أخيه حنظلة بن الربيع من كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم٤. ومن الشعراء المتبدين الذين اشتهروا بمعرفة الكتابة في هذا العصر المرقش الأكبر٥ وهو من بكر، ولبيد٦ بن ربيعة، وهو من بني عامر بن صعصعة. ولعل من الدليل على شيوع الكتابة بين البدو أننا نجد شعراءهم يصفون الأطلال كثيرا بنقوش الكتابة، يقول المرقش في فاتحة قصيدة له معروفة٧:
الدار قفر والرسوم كما ... رقش في ظهر الأديم قلم
ويقول لبيد في مطلع معلقته:
عفت الديار محلها فمقامها ... بمنى تأبد غولها ورجامها٨
فمدافع الريان عري رسمها ... خلقا كما ضمن الوحي سلامها٩
والوحي: الكتابة، والسلام: الحجارة البيض والعظام التي كانوا يكتبون عليها، وكانوا يكتبون أيضا في الأدم أولا الأديم الذي مر عند المرقش وهو الجلد المدبوغ، كما كانوا يكتبون في عسب النخل، ويستمر لبيد في معلقته، فيقول:
وجلا السيول عن الطلول كأنها ... زبر تجد متونها أقلامها
_________
١ فتوح البلدان للبلاذري "طبعة أوربا" ص ٤٧١.
٢ نفس المصدر ص ٤٧٣.
٣ مجمع الأمثال للميداني "طبعة المطبعة الخيرية" ٢/ ٨٧، وقارن بما جاء في عيون الأخبار لابن قتيبة "طبعة دار الكتب" ١/ ٤٢.
٤ الوزراء والكتاب للجهشياري "طبعة الحلبي ص ٢١٢".
٥ الشعر والشعراء لابن قتيبة "طبع ليدن" ص ١٠٤.
٦ أغاني "طبعة الساسي" ١٤/ ٩٠.
٧ المفضليات "طبعة لايل" ص ٤٨٥.
٨ عفت: أرست وامحت. تأبد: أقفر وتوحش. محلها ومقامها ومنى وغولها ورجامها: أسماء مواضع.
٩ مدافع الريان: موضع. خلقا: بلي ودروسا. الرسم: آثار الديار.
1 / 18
والزبر: الكتب. ويقول الأخنس بن شهاب التغلبي١:
لابنة حطان بن عوف منازل ... كما رقش العنوان في الرق كاتب
الرق: الجلد الرقيق، ويقول سلامة بن جندل الفارس المعروف٢:
لمن طلل مثل الكتاب المنمق ... خلا عهده بين الصليب فمطرق
وقد رد شعراء البادية هذه الصورة كثيرًا في شعرهم٣. وما من ريب في أن ذلك يؤكد أن الكتابة كانت معروفة في العصر الجاهلي، ولكن هذه المعرفة شيء، وأن العرب أحدثوا بها آثار فنية مكتوبة شيء آخر، هم عرفوها، ولكنها معرفة محدودة، فلم يكتبوا بها كتبا ولا قصصًا ولا رسائل أدبية، وإنما كتبا بها بعض أغراضه تجارية وأخرى سياسية، ولذلك لم يكن غريبا أن تشيع في مكة؛ لأنها كانت مركزا تجاريا عظيما، ويحدثنا الجاحظ أنهم كانوا يكتبون بعض عهودهم السياسية، وكانوا يسمون تلك العهود المكتوبة "مهارق"٤، وقد جاء ذكر هذه المهارق في معلقة الحارث بن حلزة مشيرا بها إلى ما كتب من عهود بين بكر وتغلب، إذ يقول:
واذكروا حلف ذي المجاز وما قـ ... ـدم فيه العهود والكفلاء
حذر الجور والتعدي وهل ينـ ... ـقض ما في المهارق الأهواء
وإذا فالعرب استخدموا الكتابة في العصر الجاهلي لأغراض سياسية وتجارية، ولكنهم لم يخرجوا بها إلى أغراض أدبية خالصة تتيح لنا أن نزعم أنه وجد عندهم لون من ألوان الكتابة الفنية، ومن المؤكد أن الكتابة لم تكن حينئذ تؤدي بجانب أغراضها السياسية، والتجارية أغراضها أدبية، أو فنية من تجويد وتحبير، إذ لم تكن أكثر من كتابة ساذجة أدت أغراضها خاصة في عصرها، وانتهت بانتهاء هذا الغرض.
ومما لا شك فيه أنه لا يوجد تحت أيدينا وثائق نستطيع أن ندعي بها أن
_________
١ المفضليات ص٤١٠.
٢ المفضليات ص٥٦٠.
٣ المفضليات ص٢٦٣، وص٥٥٩، وما بعدها.
٤ الحيوان للجاحظ "طبعة الحلبي" ١/ ٦٩.
1 / 19
الحاهليين عرفوا الكتابة الفنية، إنما الذي نستطيع أن ندعيه لهم حقا -عن طريق الوثائق الصحيحة- هو الأمثال، فقط أكثروا من ضربها، وهناك كتب مشهورة تتخصص ببحثها، وبجانب الأمثال نعرف أنه كان لهم خطابة وخطب كثيرة،
وقد أخذت الخطابة عندهم صورتهم: صورة اجتماعية عامة في منافراتهم ومفاخراتهم، ومجامعهم وأسواقهم وحروبهم، وصورة خاصة في سجع الكهان، وما كان ينزلق على ألسنتهم أثناء تكهنهم.
وقد سلمت لنا طائفة واسعة من الأمثال تناقلتها أجيالهم، والأجيال التي تلتها في الإسلام مما أتاح لها أن تحتفظ بصورتها الجاهلية، ومعروف أن الأمثال لا تتغير بل تظل طويلا على هيئتها التي صيغت عليها، وأما الخطابة وسجع الكهان، فضاعت نصوصهما إلا قليلا جدًّا، إذ بقيت بعض قطع وبعض صيغ منثورة في ثنايا الكتب التاريخية والأدبية، وما دمنا بصدد درس النثر الجاهلي فلا بد من تعقب هذه الفروع الثلاثة من الأمثال والخطابة وسجع الكهان، لنرى -بمقدار ما تسعفنا النصوص- ما أتيح لكل منها من صناعة فنية، وبراعة أدبية.
1 / 20
٢- الأمثال الجاهلية:
خلف لنا عرب الجاهلية تراثا كبيرًا من الأمثال، وهي عبارات تضرب في حوادث مشبهة للحوادث الأصلية التي جاءت فيها، وقد عني علماء العصر العباسي بدراستها، وممن سبق إلى ذلك المفضل الضبي وأبو عبيدة، ثم خلف من بعدهما خلف أشهرهم أبو هلال العسكري في كتابه "جمهرة الأمثال"، والميداني في كتابة "مجمع الأمثال"، وهو يقول في مقدمته: إنه رجع في تأليفه إلى ما يربو على خمسين كتابا. وقد درج من ألفوا في الأمثال على أن يرتبوها حسب حروفها الأولى على نحو ما ترتب المعاجم ألفاظها، ولذلك نراهم يوزعونها عادة على تسعة وعشرين بابا بعدد أبواب الحروف الهجائية. ثم بعد هذا التوزيع يفسرونها، ويقصون أحيانا حوادثها التي جاءت فيها معتمدين -غالبا- على الظن والتخمين، مما جعل نيكسون يذهب إلى أن قيمة الأمثال محدودة بالنسبة إلى العصر الجاهلي١. وحقا ما يذهب إليه، فقد طال العهد بين العصر الجاهلي، وعصر هؤلاء المفسرين، وإنه لينبغي أن نثني على صنيعهم، ولكن مع شيء من الحذر في الأخذ بتفسيرهم وقصصهم، وما يحكونه من أخبار، ما دمنا نتهم القصص الجاهلي، وما نسب إلى عرب الجاهلية من أخبار وأحداث.
ومعروف أن المثل لا يتغير، بل يجري كما جاء على الألسنة، وإن خالف النحو وقواعد التصريف، فقد جاء في أمثالهم: أعط القوس باريها٢ بتسكين الياء في باريها، والأصل فتحها، وجاء أيضا في أمثالهم: "أجناؤها أبناؤها" جمع جان وبان، والقياس الصرفي: جناتها بناتها؛ لأن فاعلا لا يجمع على أفعال. وتقول: الصيف ضيعت اللبن٣ بكسر التاء إذا خوطب بها المذكر والمؤنث والاثنان والجمع، ومعنى ذلك أن المثل لا يغير، وأنهم يستجيزون فيه ما لا يستجيزون في سائر الكلام.
وينبغي أن نلاحظ أن بعض الأمثال مبهم غامض، لا يفهمه سامعه، أو قارئه إلا إذا رجع إلى كتب الأمثال يستعين بها في شرح المراد منه، من ذلك قول العرب: "بعين ما أرينك"، فإن معناه أسرع، وهو معنى لا يفهم من اللفظ بتاتا، وقد علق عليه أبو هلال العسكري بقوله: "هو من الكلام الذي قد عرف معناه سماعا من غير أن يدل عليه لفظه"٤. ومن هذه الأمثال الغامضة ما اضطرب الشراح في تفسيره على نحو ما نجد في هذا المثل: "لا يعرف
_________
١ Nicholson، A Literaty History of the Arabs، ١٩٣٠، p. ٣١.
٢ أي استعن على عملك بأهل الحلق والمهارة.
٣ يضرب هذا المثل في طلب الحلية بعد فوات أوانها.
٤ جمرة الأمثال للعسكري على هامش مجمع الأمثال للميداني ١/ ١٦٨.
1 / 21
الهر من البر". فقد ذكر بعضهم أن الهر: السنور، والبر: الفأرة في لغة، وقال بعض علماء الكوفة معنى المثل: لا يعرف من بهر عليه "يكرهه" ممن يبره، وقال آخرون: الهر: دعاء الغنم، والبر: سوقها١. على أن هذه الأمثال الغامضة قلية، أما الكثرة فواضحة بينة.
وقد أكثر العرب من صنع الأمثال، وضربها في جميع أحداثهم وشئون حياتهم، وكثيرا ما كانوا يستوقونها في خطابتهم، يقول الجاحظ: "كان الرجل من العرب يقف الموقف، فيرسل عدة أمثال سائرة، ولم يكن الناس جميعا ليتمثلوا بها إلا لما فيها من المرفق والانتفاع"٢، فقد أودعها تجاربهم، فاتسمت بالقبول وشاعت بالتداول، على شاكلة قولهم:
أي الرجل المهذب -إياك أعني واسمعي يا جارة٣- تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها٤ -رب عجلة تهب ريثا٥- رمتني بدائها وانسلت -لا تعدم الحسناء ذاما٦، لكل جواد كبوة، ولكل صارم نبوة -مقتل الرجل بين فكيه٧- المقدرة تذهب الحفيظة٨ -من سلك الجدد٩ أمن العثار- أسمع من فرس
في غلس١٠ -إذا فزع الفؤاد ذهب الرقاد- الحر حر وإن مسه الضر - إنما
المرء بأصغريه: قلبه ولسانه -أسمع جعجعة ولا أرى طحنا١١- من أجدب انتجع ١٢ -ويل للشجي من الخلي١٣- من استرعى الذئب
_________
١ المزهر للسيوطي "طبعة الحلبي" ١/ ٥٠٠.
٢ البيان والتبيين للجاحظ "طبع مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر" ١/ ٢٧١.
٣ يضرب في التعريض بالشيء يبديه الشخص، وهو يريد غيره.
٤ لا تأكل بثدييها: أي بثمن لبن ثدييها. يضرب في صيانة الرجل الحر نفسه عن المكاسب الحسيسة.
٥ الريث: البطء، أي رب عجلة تلقي صاحبها في بطء فتفوته حاجته.
٦ الذام: العيب.
٧ بين فكيه: أي في لسانه، وما يأتي به من الكلام.
٨ الحفيظة: الغضب، يضرب في العفو عند المقدرة.
٩ الجدد: الطريق الواضحة.
١٠ الغلس: الظلام.
١١ الجعجعة: صوت الرحى، والطحن: الدقيق.
١٢ انتجع: طالب الكلأ في مواضعه.
١٣ الشجي: المهموم، والخلي: الخالي من الهموم.
1 / 22
ظلم -لا تلد الحية إلا حية- كل مجر في الخلاء يسر١ -قبل الرماد تملأ الكنائن٢.
وهناك جماعة اشتهرت في العصر الجاهلي بكثرة ما انزلق على ألسنتها من هذه الأمثال، ومن قدمائهم لقمان عاد؛ تلك القبيلة اليمنية البائدة التي كانت تسكن الأحقاف، فإننا نجد ذاكرة واضحة على ألسنة الشعراء٣، يقول الجاحظ: "كانت العرب تعظم شأنه في النباهة والقدر، وفي العلم والحكم وفي اللسان والحلم"٤. ويقول أيضا: "من القدماء ممن كان يذكر بالقدر والرياسة والبيان والخطابة، والحكمة والدهاء والنكراء لقمان"٥. وهو غير لقمان الحكيم الذي جاء في القرآن الكريم٦. ويذهب كاتب مادة لقمان في دائرة المعارف الإسلامية إلى أن شخصية لقمان مرث بثلاث مراحل:
أ- مرحلة جاهلية، وفيها يتراءى لنا لقمان عاد المعمر صاحب قصة النسور، إذ يزعمون أنه عاش عمر سبعة نسور، كلما هلك نسر خلف من بعده نسر، وكان آخرها لبدًا الذي ذكره الشعراء كثيرا في أشعارهم٧. ب- ومرحلة قرآنية، وفيها يتراءى لنا لقمان صاحب السورة الخاصة به. وقد ربط المفسرون بين لقمان هذا، وبين بلعام حكيم بني إسرائيل، فقالوا: إنه لقمان بن باعور بن ناحور بن تارخ، وهو نفس نسب بلعام٨. ج- ثم مرحلة متأخرة، وهي مرحلة نسيج فيها حول لقمان قصص كثير على نحو ما نجد في كتاب "أمثال لقمان"، وهو مكتوب بأسلوب ركيك، يغلب عليه الابتذال.
_________
١ المجري: الذي يجري فرسه. يضرب مثلا الرجل يحمد بعض خلاله، ولا يشعر بفضائل غيره.
٢ الكنائن: جمع كنانة، وهي جعبة السهام.
٣ البيان والتبيين "طبعة الحلبي" ١/ ١٨٣ - ١٨٩، ٣/ ٣٠٤.
٤ البيان والتبيين ١/ ١٨٤.
٥ نص المصدر ١/ ٣٦٥.
٦ انظر البيان والتبيين ١/ ١٨٤، وراجع تفسير أبي حيان "طبع مطبعة السعادة" ٧/ ١٨٦، وقصص الأنبياء للثعلبي "طبعة القاهرة" ٣٤٠، وخزانة الأدب للبغدادي "طبع بولاق" ٢/ ٧٧.
٧ انظر كتاب المعمرين للسجستاني "طبع مطبعة السعادة" ص٣، وحياة الحيوان للدميري "طبع المطبعة الخيرية" ٢/ ٣٠٦.
٨ راجع الثعلبي ٣٤٠، وتفسير أبي حيان ٧/ ١٨٦.
1 / 23
ولا نستطيع أن نسلم بما تقوله دائرة المعارف الإسلامية، إلا إذا سلمنا بأن لقمان عاد هو نفس لقمان المذكور في القرآن، وليس بين أيدينا ما يثبت ذلك، بل على العكس نرى علماء العرب يفرقون بينهما دائما، وقد روت كتب الأمثال عن الأول بعض أمثاله١، بينما روى الإمام مالك في كتابه "الموطأ" بعض أمثال لقمان الحكيم.
وممن عرف بكثرة الحكم، والأمثال في الجاهلية أكثم بن صيفي التميمي٢، ومما ينسب إليه من الحكم: تباعدوا في الديار تقاربوا في المودة -ليس من العدل سرعة العذل- لو أنصف المظلوم لم يبق فينا ملوم، ومن أشهر حكمائهم عامر بن الظرب٣، وكان حكما للعرب تحتكم إليه٤، وافتخر به ذو الإصبع العدواني في بعض شعره٥، ولا يكاد يوجد في العصر الجاهلي سيد مشهور، أو خطيب معروف إلا وتضاف إليه جملة من الحكم والأمثال.
_________
١ انظر مجمع الأمثال للميدني ١/ ٢٣، ٥٦.
٢ راجع مجمع الأمثال ٢/ ١٤٥، وجمهرة الأمثال للعسكري على هامشه ١/ ١٢٠، وشرح ابن أبي الحديد على نهج البلاغة "طبع مطبعة دار الكتب العربية الكبرى" ٤/ ١٥٥.
٣ انظر مجمع الأمثال ١/ ٢١١، ٢/ ١٨٣.
٤ البيان والتبيين ٣/ ٣٨.
٥ أغاني "طبع دار الكتب" ٣/ ٩٠.
٣- الصنعة في الأمثال الجاهلية: من ينعم النظر في الأمثال الجاهلية يجد طائفة منها توفر لها ضروب من القيم التصويرية والموسيقية، ففيها أحيانا تشبيه واستعارة وكناية وتمثيل، وفيها أحيانا أخرى صقل وسجع وتنميق، ونحن نصطلح على تسمية هذه القيم الفنية التي تقابلنا في نصوص الأدب الجاهلي نثره، وشعره باسم الصنعة، وقد تسربت إلى الأمثال بعض هذه القيم التي كانت تشيع في نثر الجاهليين وشعرهم، وليس معنى ذلك أنهم حققوا لأمثالهم جميعا ضروبا مختلفة من هذه القيم، فذلك إنما يظهر في القلة القليلة، أما الكثرة فمغسولة من كل فن وبيان، ومرجع ذلك
٣- الصنعة في الأمثال الجاهلية: من ينعم النظر في الأمثال الجاهلية يجد طائفة منها توفر لها ضروب من القيم التصويرية والموسيقية، ففيها أحيانا تشبيه واستعارة وكناية وتمثيل، وفيها أحيانا أخرى صقل وسجع وتنميق، ونحن نصطلح على تسمية هذه القيم الفنية التي تقابلنا في نصوص الأدب الجاهلي نثره، وشعره باسم الصنعة، وقد تسربت إلى الأمثال بعض هذه القيم التي كانت تشيع في نثر الجاهليين وشعرهم، وليس معنى ذلك أنهم حققوا لأمثالهم جميعا ضروبا مختلفة من هذه القيم، فذلك إنما يظهر في القلة القليلة، أما الكثرة فمغسولة من كل فن وبيان، ومرجع ذلك
1 / 24
إلى أن الأمثال تجري في لغة التخاطب، وأحاديث الناس اليومية العادية، وقلما نمق أصحاب هذه الأحاديث لغتهم، أو حاولوا أن يوفروا لها ضروبا من الجمال الفني البديع، ومن ثم كان كثير من الأمثال الجاهلية يخلو خلوا تاما من المهارة البيانية، وقد مر بنا أن طائفة منها تخرج على الأصول الصرفية والنحوية، ومن أجل ذلك قالوا: إنه يجوز فيها من الحذف، والضرورات ما لا يجوز في سائر الكلام١.
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا: إن الأصل في الأمثال أن لا تكون مصقولة، ولا مصنوعة؛ لأنها من لغة الشعب، وقلما نمق الشعب في لغته، غير أن كثيرا ما تصدر الأمثال عن الطبقة الراقية في الأمة: طبقة الشعراء والخطباء، فتحقق لها هذه الطبقة ضروبا من عنايتها العامة بفنها، وهذا هو مصدر الاختلاط في الحكم على الأمثال، فبينما نجد أمثالًا غير مصقولة نجد أخرى تفنن أصحابها في صوغها، وإخراجها في أسلوب بيلغ على شاكلة تلك الأمثال:
أنقى من مرآة الغريبة -كالمستجير من الرمضاء٢ بالنار- إن البغاث بأرضنا يستنسر٣ -وراء الأكمة ما وراءها- حلب الدهر أشطره٤ -يخبط خبط عشواء٥- تطلب أثرا بعد عين٦ -في الجريرة تشترك العشيرة٧ عند الصباح يحمد القوم السري٨- تحت الرغوة اللبن٩ الصريح -هدنة على دخن١٠- حال الجريض دون القريض١١ -رب صلف تحت الراعدة١٢- وقد يأتيك بالأخبار من لم تزود١٣ -استنوق الجمل١٤- كذى العريكوى
_________
١ المزهر للسيوطي ١/ ٤٨٧.
٢ الرمضاء: الأرض شديدة الحرارة.
٣ البغاث: ضعاف الطير. يضرب مثلا للشخص يكون ضعيفا، ثم يقوى كالنسور في عالم الطير.
٤ الأشطر: جمع شطر، وهي أخلاف الناقة. يضرب مثلا لمن عرك الدهر.
٥ العشواء: الناقة ضعيفة البصر. يضرب مثلا في التعثر.
٦ يضرب في فوت الحاجة.
٧ الجريرة: الجناية.
٨ السرى: السير ليلا.
٩ الصريح: الخالص.
١٠ دخن: حقد.
١١ الجريض: غصص الموت، والقريض الشعر.
١٢ الراعدة: السحابة، والصلف: قلة الخير والمطر. يضرب مثلا في البخل مع السعة.
١٣ تزود: تعطه الزاد.
١٤ استنوق: أصبح ناقة. يضرب مثلا لمن يظن أن فيه شجاعة ثم يظهر جبنه، وكذلك لمن يظن أن عنده رأيا، ويظهر عجزه.
1 / 25
غيره وهو راتع١ -لا تكن رطبا فتعصر ولا يابسا فتكسر- لا تكن كالعنز تبحث عن المدية -لو ذات سوار لطمتني٢- المكثار كحاطب الليل٣ -المنية ولا الدنية٤.
وما من ريب في أن هذه الأمثال تستحوذ على ضروب من الجمال الفني يرجع بعضها إلى اختيار ألفاظها، وصيغها ويرجع بعضا الآخر إلى ما تعتمد عليه من تصوير، أو سجع وتوفيق، وهذا هو معنى ما نذهب إليه من الأمثال الجاهلية تحتوي في بعض جوانبها آثارا من الصنعة، ولعل ذلك ما جعل الفارابي يقول: إنها من أبلغ الحكمة٥، ويقول ابن المقفع إنها آنق للسمع٦، بينما يقول النظام: إنها "نهاية البلاغة لما تشتمل عليه من حسن التشبيه، وجودة الكناية"٧.
وطبيعي أن تظهر الصنعة في بعض الأمثال الجاهلية، فقد كان العرب حينئذ مشغوفين بالبيان والبلاغة، وصور القرآن الكريم فيهم هذا الجانب، فقال جل شأنه: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾، وقال: ﴿وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾، وقال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ .
وفي جميع آثار نثرهم، وشعرهم نجد آثار هذه الرغبة الملحة في استمالتهم الأسماع بجمال منطقهم وخلابة ألسنتهم، وقد دفعتهم تلك الرغبة دفعا إلى تحسين كلامهم، وتحبير ألفاظهم حتى في أمثالهم، وهيأ لذلك أن كثيرا من بلغائهم، وفصحائهم أسهموا في صناعة هذه الأمثال، فكان طبيعيا أن تظهر فيها خصائصهم الفنية التي يستظهرونها في بيانهم، وتدبيج عباراتهم حين ينظمون، أو يخطبون.
_________
١ العر: الحرب، وكانوا يداوونه في إبلهم بالكي.
٢ ذات السوار: المرأة. يضربه الرجل الشريف في ظلم الحسيس له.
٣ المكثار: المكثر من الكلام، وشبه يحاطب الليل؛ لأنه ربما نهشته حية أو عقرب.
٤ الدنية: العمل الدنيء.
٥ المزهر ١/ ٤٨٦.
٦ الأدب الصغير بتحقيق أحمد زكي ص٢٨.
٧ مجمع الأمثال ١/ ٥.
1 / 26
٤- الخطابة الجاهلية:
كان للخطابة في العصر الجاهلي شأن عظيم، إذ كانوا يستخدمونها في منافراتهم ومفاخراتهم١، وفي النصح والإرشاد٢، وفي الحث على قتال الأعداء٣، وفي الدعوة إلى السلم وحقن الدماء٤، وفي مناسباتهم الاجتماعية المختلفة كالزواج، والإصهار إلى الأشراف٥، وكانوا يخطبون في الأسواق والمحافل العظام، والوفادة على الملوك والأمراء، متحدثين عن مفاخر قبائلهم ومحامدها، ونحن نعرف قصة وفد تميم إلى رسول الله ﷺ، وما كان من قيام عطارد بين حاجب بن زرارة خطيبا بين يديه٦، ويقول أوس بن حجر في رثاء فضالة بن كلدة٧:
أبا دليجة من يكفي العشيرة إذ ... أمسوا من الخطب في نار وبلبال
أم من يكون خطيب القوم إذ حفلوا ... لدى الملوك ذوي أيد وأفضال٨
ويقول فيه أيضا٩:
ألهفا على حسن آلائه ... على الحابر الحي والحارب١٠
_________
١ انظر البيان والتبيين في مواضع متفرقة مثل ١/ ١٠٩، ١/ ١٩٠، ٢/ ٢٧٢، والأغاني ١٥/ ٥١.
٢ البيان والتبيين في موضع متفرقة مثل ١/ ٤٠١، والمزهر للسيوطي ١/ ٥٠١.
٣ انظر الأمالي لأبي علي القالي ١/ ٩٢ الأغاني "طبعة الساسي" ٢٠/ ١٣٧.
٤ البيان والتبيين ١/ ٣٤٨.
٥ انظر البيان والتبيين ٢/ ٧٧، وراجع ١/ ١١٨، ١/ ١٣٤، ٣/ ٦.
٦ تاريخ الطبري: القسم الأول ص ١٧١١، والأغاني "طبع دار الكتب" ٤/ ١٤٦، والبيان والتبيين ١/ ٥٣.
٧ نقد الشعر لقدامة "طبعة الجوائب" ص٣٥، وديوان أوس "طبع فيينا" ص٢٢.
٨ أيد: قوة.
٩ البيان والتبيين: ١/ ١٨١.
١٠ الحارب: المحارب الغائم.
1 / 27